القرآن الكريم وفكرة النص المجرد

القرآن الكريم وفكرة النص المجرد

بقلم: الأستاذ الدكتور رجب إبراهيم أحمد

الأستاذ بجامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه

 

لقد انطلقت هذه الدعوات إلى التفسير باللغة لفهم النص القرآني من محور عربية القرآن،إذ هو قد نزل بلسان عربي مبين،فالأمر إذن لا يحتاج إلا أن نغوص في أعماق اللغة العربية والفاظها لنستطيع فهم وإدراك معاني الكتاب الحكيم.

إننا لا يمكن أن نسلِّمَ بهذا الرأي،وذاك الاتجاه،فالقرآن الكريم نصٌّ مختلف عن كافة النصوص التي تناولتها اللغة العربية،إنه نص ملتحم مع السياقات الزمانية والمكانية والحياتية للواقع والحياة.إنه مرتبط بكافة الأحداث سواء سياسية أو اجتماعية،أو نفسية أو تاريخية،فقد ااستغرق زمن نزوله ثلاثا وعشرين سنة..إنها سنوات مستغرقة في الحياة بكل تفاصيلها ودقائقها..فالزمن والمكان ركنان أساسيان في فهم معاني القرآن الكريم.

إنّ القرآن نفسه يرفض فكرة النصّ المجرّد الذي يأتي جملة واحدة، معزولًا عن معترك الحياة وملابساتها، قال تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).فهو بالتحامه هذا بوقائع الدعوة النبوية يثبّتُ فؤاد النبيّ “باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشا” كما يقول الماوردي في تفسيره.

في هذا السياق يكون فهم أسباب النزول وفهم السيرة النبوية من أولويات فهم كتاب الله، فكيف تفهم رسالة لا تعرف سيرة من حملها؟ وكيف تعرف سيرته وأنت مُعرض عن المصادر التي نقلت تلك السيرة؟ وكيف تفهم العبرة المستفادة من عشرات الآيات بل المئات وأنت لا تعرف في أيّ شيءٍ نزلت؟ من هنا يتّضح أنّ الإعراض عن مرويّات السنة ومرويات الصحابة ومن تبعهم في تفسير القرآن هو تصرّف غير علمي وبعيد غاية البعد عن القراءة العلمية الموضوعية التي تهدف إلى معرفة مقاصد القرآن والقيم والأحكام التي يحملها.

إن المشكلة الحقيقية في لاعتماد على التفسير اللغوي لفهم معاني القرآن بعيدا عن السياقات الزمانية والمكانية هي أن اصطلاحات ألفاظ اللغة تتمدد في مجال رحب فسيح من الدلالات والمعاني،هذه الدلالات قد تتنوع للفظ واحد ماأرجحة في معانيها بين الشرع تارة،واللغة تارة ثانية،والعرف تارة ثالثة.

فلفظ الدابة مثلا في اصطلاح اللغة: كلّ ما يدبّ على الأرض، سواء كان عاقلا أو غير عاقل، كقوله تعالى:(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ) وفي الاصطلاح العرفي: ما يُركب من الدواب التي نعرفها. وقد يكون المقصود منها في الاصطلاح الشرعي دابّة الأرض التي هي من علامات الساعة كما في قوله تعالى:(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ). أرأيتَ لو فسّرتَ دابّة الأرض في هذه الآية تفسيرا لغويا فقط، بعيدا عن الروايات التي تصفها،فهل سنصل إلى المعنى المراد؟

ويدلل إبراهيم أصبان على ذلك بمثال من القرآن الكريم فيقول:”كان العرب يعرفون كلمة (اقرأ) والمعنى القراءة، ولكن المراد بهذه اللفظة في الآيات لا علاقة له بمعرفتهم هذه، فالأمر (اقرأ) أمر إلهي، وهو موجه إلى من لا يعرف القراءة ولا الكتابة بالمفهوم اللغوي، وقد وضع الوحي بين يديه مادة القراءة، فإذا هي معان لا تمت إلى مذخور العقل العربي بصلة ما، وذلك متمثل في الربط البديع بين القراءة واسم الرب الخالق، وقد كانت للعرب الجاهليين فكرة عن الإله مشوشة مغلوطة، تختلط بفكرة الوثنية المشركة، فلا ريب أن مسافة هائلة كانت تفصل بين فكرتهم هذه، وبين ما دعي إليه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة الإلهية من القراءة باسم الرب الخالق، شيء غريب على العقلية العربية الجاهلية، وهو شديد الغرابة إذ استمرت الآيات فذكرت (خلق الانسان من علق) الألفاظ سهلة مأنوسة، ولكن المعنى جديد تماما، بل إن هذا المعنى بقي جديدا حتى الآن، يحاول العلم أن يصل إلى أسرار هذه العلقة، فيتكشف له كل يوم جديد دون أن يتصور أنه واصل إلى غاية هذا المعنى القرآني، عن أصل الإنسان اللغز الأبدي”( )

إن النظر إلى الاستعمال السياقي لا ينفك عنه اللغوي الذي يقصد بيان الألفاظ القرآن وعربيته ، بله مفسرو السلف الذين يكثر في تفسيرهم الاعتناء ببيان المعاني دون تحرير الألفاظ من جهة اللغة ، ومن أمثلة ذلك تفسير أبي عبيدة كمعمر بن المثنى البصري ( ت : 210 ) لقوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل)(البقرة: من الآية191) ، قال : أي : الكفر أشدُّ من القتل في أشهر الحُرُمِ ؛ يقال : رجلٌ مفتونٌ في دينه ؛ أي : كافر )) . ( مجاز القرآن / 1 : 68 ) .

ولو ذهب أبو عبيدة إلى التفسير اللغوي ، لقال : الفتنة : الامتحان والاختبار ، لكنه ذهب إلى تفسير المراد بالفتنة في هذا السياق ، وهو الكفر.

ومن المحاذير التي يوقع فيها منهج الاعتماد على المعاني اللغوية مع إغفال المعاني الشرعية التي دلّ عليها الوحي أنّه يحرّف الكثير من المفاهيم الشرعية الخطيرة، ولنأخذ على سبيل المثال مفهومين على غاية من الخطورة والأهمية: مفهوم الإيمان، ومفهوم الولاء.

أما مفهوم الإيمان فقد قالت بعض الفرق إنّه “التصديق” فحسب، باعتبار أنّ هذا هو معناه اللغوي. ومن ثمّ أصبح التكليف الشرعي الذي سمّاه الله في كتابه إيمانًا هو مجرّد التصديق! مع أنّ الإيمان المطلوب شرعًا للنجاة الأخروية هو شيء زائد على التصديق في كتاب الله، فلا يدخل الجنّة مشركٌ كما تدلّ الكثير من الآيات، ومع أنّ القرآن ذكر أقواما صدّقوا بالله عزّ وجلّ وبرسله ولكنّهم كانوا رافضين لرسالاته جحودا، كما قال تعالى حكاية عن المشركين: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وقد أثبت سبحانه الإيمان اللغوي لقوم مشركين فقال عزّ وجلّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}، فهل يُقال عن هؤلاء إنهم مؤمنون يدخلون الجنّة؟ أم نقول كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه إنّ البراءة من الشرك هي شرط دخول الجنة كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.

فتصوّروا كيف سيتمّ اختزال الإيمان الإسلامي ومضامينه القرآنية حين يكون المطلوب لدخول الجنّة هو مجرّد التصديق، حتى قال أحد الدعاة المعاصرين إنّه يكفي أهل الكتاب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم ليدخلوا الجنّة بحسب دين الإسلام، مع أنّ الله عز وجلّ يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فاشترط سبحانه عليهم نصرته واتّباع ما جاء به من عند الله كي يفلحوا، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

هذا هو الإعجاز القرآني الذي منح اللفظ العربي امتدادا في المدلول فأحدث ثورة لغوية لم تشهدها لغة من لغات البشر. وقد وقع التطور في اللغة العربية في صورة انتقالات على خيط المعنى الممتد من استعمال الجاهلية إلى استعمال القرآن( ).

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: