هل غادر الشعراء من متردَّم؟!

هل غادر الشعراء من متردَّم؟!

الدكتور إبراهيم يوسف عبد الحميد

قسم الدراسات العربية، أكاديمية الدراسات اللغوية

جامعة مارا للتكنولوجيا – ماليزيا

 

بهذا التساؤل استهلَّ عنترة بن شداد معلقته قبل أكثر من ألف عام، يتساءل عما إذا كان الشعراء قد تركوا بابا لم يطرقوه، أو غفلوا عن ثغرة فلم ينسجوا عليها أشعارا. هذا الاستفهام الاستنكاري الذي ساقه عنترة ليؤكد به أن الشعراء لم يتركوا موضعا إلا ذهبوا إليه، ولا مشهدا إلا خاضوا فيه. فقد أصابت أشعارهم كل معنى، ونالت أبياتهم كل لفظ ومبنى. اليوم، وبعد عشرات القرون من قول عنترة، وفي عصر العولمة والتطور التكنولوجي الذي نعيشه، ما زلت أتساءل: هل غادر الشعراء من متردَّم؟!

تلك الفكرة التي ساقها عنترة عن قصد أو دون قصد، ترسخ لدور الشاعر في المجتمع. فالشاعر لم يكن أبدا محصورا في موضوعات بعينها، ولا مقيدا بدروب يسلكها. بل إن الشاعر دائما ما كان نبضَ المجتمع ولسان حاله، يوثِّق تاريخه ومواقعه، ويرسم أفراحه وأحزانه ويعبر عن طموحاته وأحلامه بأسلوب فنيٍّ يلامس أعماق القلوب ويصور أفكار الشعوب ومشاعرهم.

ومن ثمَّ تبقى قدرة الشعراء على التعبير عن المجتمع من أهم مظاهر دورهم الفني والاجتماعي. فهم يستخدمون قوة الكلمة وجمال اللغة ليسلطوا الضوء على مختلف جوانب الحياة، سواء كانت إيجابية أم سلبية، ويقدمون لنا صوراً شعرية تتراوح بين الفرح والحزن، الأمل واليأس، الحب والفراق.

خذ مثالا على ذلك من شعراء فلسطين الأبية، الذين يمثلون صوت الصمود والتضحية، حين يروون قصص الوطن ومعاناة أهله بأدق التفاصيل في أبيات شعرية تدور بين الألم والأمل، وعندما يعبرون عن الأحداث والتجارب التي شهدتها فلسطين بأسلوب شاعري يعكس عمق الوجدان وصدق المشاعر. يأتي على رأسهم شاعر الثورة محمود درويش، أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين، الذي اشتهر بقصائده النابضة بالحياة والشغف والصراحة. نظم محمود درويش أشعاره عن الوطن المسلوب، وكفاح الشعب الفلسطيني، وعن الأمل الذي لا ينقطع رغم كل الآلام والصعاب. وعبد الكريم الكرمي، الذي كتب بصدق وجرأة عن معاناة الشعب الفلسطيني وعن الحلم الذي لا يموت، تجسد قصائده روح الثورة والصمود، وأصبح صوتًا لمن يعانون من الظلم والاحتلال. أما تميم البرغوثي الشاعر الفلسطيني الشاب، الذي يُعد واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية الفلسطينية الحديثة، التي ترتقي بالأدب العربي إلى آفاق جديدة من الابتكار والإبداع، يتناول في قصائده القضايا الاجتماعية والسياسية بأدق التفاصيل. يعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال. ويسلط الضوء على الظلم والقهر بأسلوب شاعري يتسم بالحنين والحس الإنساني.

وغيرهم العديد من الشعراء الفلسطينيين أمثال سميح القاسم، ومريد البرغوثي، وإبراهيم طوقان، وفدوى طوقان. إن شعراء فلسطين يبقون دائما جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الكفاح الفلسطيني، وقوة كلماتهم تظل محفورة في الذاكرة.

إن للشاعر دور مقدس، حيث يدفع جمهوره إلى التفكير والتأمل في معاني الحياة، وفلسفة الوجود، وتكوين الهوية. حين يستخدم الشاعر الرموز والمفاهيم العامة بشكل مبتكر ليثير الانتباه ويبث الوعي بالواقع والمأمول، ويُبقي روح الثورة مشتعلة في نفوس الأجيال.

وفي هذا العصر الرقمي المتطور الذي نعيشه، يظل دور الشعراء مهمَّا ومؤثِّرًا، بالرغم من الطفرة الكبيرة في وسائل الاتصال والتواصل، فقد أصبحت الشبكات الاجتماعية ووسائل التواصل والمنصات الرقمية مساحة مهمة لانتشار الشعراء ونشر أشعارهم وقصائدهم على نطاق أوسع مما كان عليه. هذا النوع من التواصل يسمح للشعراء بالتفاعل مع جمهورهم بشكل أكبر وأسرع، ويعزز التواصل بينهم وبين معجبيهم ومحبي الشعر.

والتكنولوجيا لم تقتصر على توسيع دائرة جمهور الشعراء فحسب، بل إنها أيضاً قد أتاحت لهم فرصًا واسعة للابتكار والتجديد في أساليب العرض والإلقاء. حيث ظهرت التقنيات الحديثة المستخدمة فيما يُعرف بالشعر التفاعلي، والشعر المرئي، والشعر الصوتي، مما يضيف بعداً جديداً وإبداعياً إلى تجربة الشعر المعاصر، والانتقال بالعلاقة بين الشاعر والجمهور إلى مرحلة جديدة من الانسجام والتفاعل.

وبصورة عامة، يبقى دور الشعراء في هذا العصر الرقمي محوريًّا من خلال قدرتهم على التعبير عن قضايا الفرد والمجتمع والأمة. ومع التطورات التكنولوجية المستمرة، أتوقع أن يستمر هذا الدور في التطور والتوسع ليصبح أكثر إبداعاً في العقود القادمة. إن الشعر يمتد إلى جميع جوانب الحياة الإنسانية، ويعبر عن مشاعر وتجارب الإنسان في عالمه المعقد. ومن خلال تناول هذه الجوانب المختلفة، يصبح الشعر جسرًا تواصليًا بين الفرد والمجتمع، وبين الأفكار والمشاعر والتجارب المختلفة.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: