هل يقع النسخ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

هل يقع النسخ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

بقلم: دكتورة صفاء مصطفى علي

 

روى الإمام مسلم -رفع الله درجته في عليين- عن أَبي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَخُ حَدِيثُهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ‌كَمَا ‌يَنْسَخُ ‌الْقُرْآنُ بَعْضُهُ بَعْضًا» .

إن كثيرا ما يلفت النظر في الشبهات التي يثيرها الحداثيون افتقادها للمنهجية العلمية سواء في الطرح، أو التحليل، فهي إنما تكشف عن جهل مترسخ في الرجل، لا يجعله يطَّلع -ولو بقدر قليل- على الحديث الوارد عليه الشبهة ليعرف لغته، ويفهم لفظه، ويقف عليه وقوف الراسخ في العلم، وليس على شفا جرف هار.

والحديث الذي معنا شاهد غير متهم على ضحالة الفكر لدى الرجل، وسطحية العقل فيه، فأحكام الرجل عامة لا دليل عليها، يخبط خبط عشواء، بل هو وحاطب الليل سواء، ليطاول العماليق، ويغطي الشمس بكمه، وهو لا يدري أنه يكشف للعامة جهله، ويتصاغر أمام أئمة العلم وسدنته، فيرجع بالخسار والبوار.

1- معنى النسخ، ومتى يكون.

من الضروري أن نقف أولا على معنى النسخ، وحالاته، حتى نعلم أن النسخ لم يكن في كل أحكام الدين حتى يشك المسلم في كل ما يأتيه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يزعم نيازي عز الدين. فمعنى النسخ كما يعرفه أبو جعفر النحوي حين يعرض لأصل اشتقاقه “واشْتِقَاقُ النَّسْخِ مِنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا أَزَالَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَنَظِيرُ هَذَا {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} . وَالْآخَرُ مِنْ نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا نَقَلْتُهُ مِنْ نُسْخَةٍ، وَعَلَى هَذَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَلَالًا إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يُنْسَخَ فَيُجْعَلَ حَرَامًا أَوْ يَكُونَ حَرَامًا فَيُجْعَلَ حَلَالًا أَوْ يَكُونَ مَحْظُورًا فَيُجْعَلَ مُبَاحًا أَوْ مُبَاحًا فَيُجْعَلَ مَحْظُورًا، يَكُونُ هَذَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْإِبَاحَةِ وَالَمَنْعِ” .

والنسخ لا يقع إلا بشروط معتبرة، ذكرها الهمداني فقال:

– “أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِخِطَابٍ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمُكَلَّفِ يَنْقَطِعُ الْحُكْمُ، وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لِلْحُكْمِ لَا نَاسِخٌ لَهُ.

– أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ أَيْضًا حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي مُسْتَنَدُهَا الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَمْ تُنْسَخْ، وَإِنَّمَا ارْتَفَعَتْ بِإِيجَابِ الْعِبَادَاتِ.

– أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ السَّابِقُ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ…

– أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ النَّاسِخُ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ الثَّانِي” .

وعلى هذا فوقوع النسخ في السنة إنما هو في مواضع محددة وأحكام محددة، ومناسبات محددة معلومة، وليس في كل الأحكام وليس في السنة كلها.

وذكر الإمام الطحاوي علة جوهرية في النسخ، سواء كان النسخ في القرآن أو كان في السنة، وهي علة البيان والتوضيح للمخاطبين بالقرآن أو بالسنة، فالحكم الذي نسخ من القرآن هو من قبل الله عز وجل والسنة كذلك،” …كَمَا يَنْسَخُ مِنْهُمَا مَا شَاءَ بِالْقُرْآنِ وَكَانَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا قَدْ يَخْرُجُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَكُونُ ظَاهِرًا لِمَعْنَى، وَيَكُونُ بَاطِنُهُ مَعْنًى آخَرَ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ ظَاهِرِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنُهُ قَدْ يَحْتَمِلُ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّا إِنَّمَا خُوطِبْنَا لِيُبَيِّنَ لَنَا، وَلَمْ نُخَاطَبْ بِهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ” .

ثم شرع الإمام الطحاوي في شرح مثال لعلة النسخ حين تكون للبيان والتوضيح فذكر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فقال:” عَنْ عُبَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ”  قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَفَلَا تَرَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ فِي اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مَا قَالَ ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}  فَكَانَ حَدُّهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا فِيهَا حَدًّا يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ تَنْسَخُ الْقُرْآنَ ‌كَمَا ‌يَنْسَخُ ‌الْقُرْآنُ الْقُرْآنَ” .

______________________

 

مسلم، صحيح مسلم، كتاب الحيض، بَابُ إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، 1/269، رقم 344.

الحج آية: 52.

أبو جعفر النَّحَّاس أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي، الناسخ والمنسوخ، المحقق: د. محمد عبد السلام محمد، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1408ه، ص57. وانظر: أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الحازمي، زين الدين، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، دائرة المعارف العثمانية – حيدر آباد، الدكن، ط2، 1359 هـ، ص 5-6.

الحازمي، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص7.

الطحاوي، أحكام القرآن الكريم، تحقيق: الدكتور سعد الدين أونال، مركز البحوث الإسلامية التابع لوقف الديانة التركي، إستانبول، ط1 1/63-64.

مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنا، 2/1316، رقم 1690.

النساء: آية 15.

الطحاوي، شرح مشكل الآثار، 1/222، رقم 242.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: