أمة تخاصم لغتها..هل تنهض ؟!

أمة تخاصم لغتها..هل تنهض ؟!

بقلم: الدكتور/ عبد الرحمن معوض علي

أستاذ البلاغة والنقد والأدب المقارن المساعد بكلية اللغة العربية – جامعة السلطان عبد الحليم  معظم شاه الإسلامية العالمية(unishams)- ماليزيا.

وصلتُ إلى أحد مطارات دولة عربية في رحلة عودتي إلى مصر فوجدت اللافتات الإرشادية في المطار خالية من اللغة العربية، أتفهم سبب كتابة لوحات إرشادية باللغة الإنجليزية بوصفها لغة عالمية تخاطب المسافرين والعابرين من أنحاء مختلفة من العالم لكن ماذا عن المسافرين من هذه الدولة وغيرهم من العرب أليس لهم الحق أن يجدوا لوحات بلغتهم الأم، التي هي اللغة الرسمية للدولة؟!

اتجهت إلى محافظتي الريفية الصغيرة، سرت في شوارعها التي طالما اشتقت إليها، هالني ما رأيت؛ فأسماء المطاعم والمتاجر باللغة الإنجليزية،كأننا في لندن أو مانشستر، جلست أشاهد التلفاز متنقلا بين قنواته المختلفة فإذ بالمذيعين ومقدمي البرامج الحوارية والرياضية فضلا عن برامج الطبخ يحشرون في كلامهم مصطلحات وعبارات أجنبية مع ما تعانيه أمتنا من أمية بل الأدهى من ذلك أن هناك قنوات وإذاعات موجهة للمواطن المصري والعربي مسماة بالإنجليزية، ثار في ذهني سؤال كبير: من يخاطب هؤلاء؟

إن تلك الظاهرة لا يمكن توصيفها إلا أنها إحدى مظاهر الهزيمة النفسية والانحدار الحضاري لأمتنا التي باتت تلهث وراء كل ما هو مستورد وأجنبي ودخيل وترفض أو تتشكك في كل ما هو وطني ومحلي وأصيل.

قطعًا لست ضد تعلم الإنجليزية وغيرها من اللغات بل أراها ضرورة؛ فقضية الترجمة ومعرفة اللغات الأجنبية آلية أساسية من آليات التنمية، لا يمكن لأمة أن تتجاهلها، لكن الإنسان مهما تعلم من لغات لن يبدع إلا بلغته الأصلية.

قد يقول قائل: لقد فقدنا الريادة العلمية وتخلفنا عن ركب الحضارة والتقدم وأصبح تعلم اللغات الأجنبية هو الحل السحري لاستنقاذنا من براثن الجهل والتخلف والارتقاء إلى مصاف الدول الغنية والمتقدمة، لكن الواقع يشهد بعكس ذلك فإهمال اللغة الأم والتشدق بلغة المحتل لم يحرز تقدما ولم يصنع تنمية، وها هي دول المغرب العربي تتحدث الفرنسية فهل جنت رفعة أو ازدهارا ؟ كما أن كثيرا من دول إفريقيا تتحدث الفرنسية أو الإنجليزية لكنها لا تزال تعيش في فقر مدقع وتخلف كبير.

على النقيض نجد قليلا من اليابانيين يتحدثون الإنجليزية بطلاقة في حين تبقى الأكثرية متمسكة بلغتها الأصلية وهذا لم يمنعهم من أن يحتلوا مكانة مرموقة بين الدولة المتقدمة والغنية وأن يصل الاقتصاد الياباني في بعض الأوقات إلى ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم قبل أن يتعداه الاقتصاد الصيني بعد ذلك،كما أن كثيرا من الدول تدرس الطب والعلوم بلغتها فكوريا الجنوبية تعلم العلوم باللغة الكورية، كذلك روسيا تفرض دراسة الطب باللغة الروسية ، حتى تلك الدولة المزعومة صنيعة بريطانيا وربيبة أمريكا تدرس الطب باللغة العبرية، وفرنسا التي تتحدث لغة بينها وبين الإنجليزية روابط ووشائج، تتشدد تشددًا كبيرا في منع استعمال كلمات إنجليزية في الإذاعة والتلفاز، وإذا اطلعنا على النموذج السوري (قبل الحرب) وجدنا سوريا تدرس جميع العلوم بالعربية ومع ذلك فهي تأتي قبل مصر في ترتيب الأطباء الأجانب العاملين في أمريكا بالنسبة لعدد سكان دولتهم، كما لا يقل مستوى الأطباء السوريين عن المتوسط العالمي في امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب في أمريكا وتسبق سوريا مصر كذلك في دليلي الأمم المتحدة (السبق التقني والتعليم) إن هذا كله يؤكد أنه لن تتقدم أمة دون إنتاج العلم بلغتها وهو ما فعله العرب إبّان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية حيث ترجموا تراث اليونان والفرس وعلوم الهند ثم أبدعوا بلغتهم الأم وساهموا بنصيب وافر في  المنجز الحضارى الإنساني

إن اللغة هي إحدى مقومات الأمة والمحدد الأول لهويتها، وإذا فقدت أمة لغتها فقد فقدت ذاكرتها وتاريخها، وأحد أسباب بقائها فلا تحيا أمة ماتت لغتها، وهذا ما يدفعنا إلى سؤال المناديين بتقدم الأمة: كيف تنهض أمة تخاصم لغتها؟!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: