السلطة المؤسساتية والدراسات التداولية للخطابات القانونية

السلطة المؤسساتية والدراسات التداولية للخطابات القانونية

دكتور أيمن أبومصطفى

 

كل خطاب محكوم بسياقه، فلكل مقام مقال، وبهذا تتعدد أسس التحليل بتعدد المقامات، وهذا ما يجعل التحليل اللغوي أو البلاغي لأية خطاب تحليلا لايعرف الثبات، ولا يتأطر بأطر ثابتة، ومن هنا فإن مسألة وضع أسس ومعايير ثابتة ضرب من العبث وتضييع للوقت.

فخطاب سياسي وآخر اقتصادي وآخر فلسفي وآخر كذا وكذا فهذا تنوع سياقي ، وهذا التنوع يقتضي تنوعا في وجهات النظر، وسأقف في هذا المقال على الخطاب القانوني، فالدراساتُ اللغويَّةُ لم تعدْ بعيدةً عن الاستعمالِ التواصلي اليومي في ضوءِ معطياتِ الدرسِ اللسانيِّ الحديث، فالتداوليّة دراسة اللغة  من خلال أبعادها الاستعمالية، والاستعمال القانونيّ أو أحد أبعاد التداوليِّة لظاهرة الفعل الكلاميّ بين بنيتهِ المقوليَّةِ وكفايتهِ الإنجازيةِ.

فالخطاب القانوني نموذج  لتنوع المعرفةِ الإنسانيَّةِ وتلاقيها وتلاقحِها والإفادة من معطياتِها ، وذلك يمكن أن يكون من خلال  دراسةِ الظاهرة اللغويَّة التي تكشف عن مباني التفكيرِ، فاللغة تكشف لنا كيف يفكر المتكلم ، فتستطيع أن تقرأ خلالها وعيه وما يضمره أو يريد أن يضمره.

ومن هنا يكون الخطاب القانوني صالحا لدراسته تداوليا من خلال الكشف عن  الفعلِ الكلاميِّ وقيمته اللغوية الاستعمالية وعلاقته بالدلالةِ المقاميَّةِ، لنكشف من خلاله مكامن التفكير، فاللغة القانونية لغة تتعدى الوظيفة الوصفية وصولا للوظيفة الإنجازية.

يُشير “أوستن” إلى هذا المعنى – وهي إشارة تكشف عن مدى تأثير المجال القانوني في بناء نظريته – قائلاً: ((إنَّ إصدار العبارة يقابل الحكم التشريعي، فالمحَكَّمون والقضاة يصدرون أحكامهم أثناء ممارستهم، وأعمالهم التشريعية. وتقتضي آثار ممارستهم ونتائجها أن يضطّر الآخرون أو يُؤذن لهم بالقيام ببعض الأفعال أو لا يُؤذن لهم بذلك))( ).

ولعل هذا ما نلمسه من خلال تمييز  “أوستن” بين نوعين من أفعال الكلام هما: (الأفعال الوصفية، والأفعال الإنجازية)  أو(المنطوقات التقريرية والمنطوقات الأدائية) وهو ما يتوافق مع الخبر والإنشاء في ثقافتنا العربية إلى حد كبير.

فالأسلوب الخبري  يصف وقائع العالم الخارجي، فلا يتجاوز القول فيها إلى الفعل، ويكون صادقا أو كاذبا، أما الإنشائي فينجز أو يؤدي أفعالاً – في ظروف ملائمة – ولا توصف بصدق ولا كذب، والتلفظ بها يساوي تحقيق فعل في الواقع.

وقد صنف أوستن الأفعال الكلامية بحسب قوتها الإنجازية إلى خمسة أنماط، وهي:

1- الحُكميات (أفعال القرارات التشريعية)، وهدفها إصدار الأحكام، مثلما يفعل القاضي في المحكمة، وليست هذه الأحكام نهائية؛ لأنَّ الحكم قد يواجه بالمعارضة أو الاستئناف.

2- التنفيذيات (أفعال الممارسات التشريعية)، وهدفها إصدار حكم فاصل، أي ممارسة سلطة تشريعية وقانونية، مثل: إصدار المذكرات التفسيرية والتعيين، وإعطاء التوجيهات التنفيذية.

3- الوعْديات (الأفعال الإلزامية)، وهدفها أن يتعهد المرسل بإنجاز فعل معين، مثل: الوعد والضمان والتأييد .

4- السلوكيات، والهدف منها هو إبداء سلوك معين، مثل: الاعتذار والشكر والقَسَم والتهاني والتعازي.

5- التبيينيات (الأفعال التفسيرية)، والهدف منها الحِجاج والنقاش والتبرير، مثل: وَصَفَ وشَرحَ وأثبتَ وأنكرَ واعترضَ( ).

وخلال هذه الرؤية التداولية للخطاب القانوني تظهر أهمية العرف الاجتماعي أو السياق، فللمواضعة الاجتماعية أهمية في إضفاء الدلالات فالفعل “فتح” أو “باع” لا يتمتّع بالخصائص الدلالية التي تجعله مُعبِّراً عن عمل لغوي، لكنَّنا نجده معبرا في قولنا “افتتح القاضي الجلسة”.

ومن هنا يمكن أن نطمئن إلى أن صِيغ العقود في المنظومة القانونية أخبار نُقلت إلى معنى الإنشاء فـ”بعت الدار” و “أنت طالق” يحتملان القراءة الخبرية بوصفهما إثباتين والقراءة الإنشائية بوصفهما إيقاعين.

فالجملة الواحدة تكون خبرا  بالنظر إلى معانيها الذهنية، وإنشاء بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية، وهذا يرجع إلى الغرض التأثيري.

فنحن في الاستعمال القانوني للغة إزاء العديد من المستويات اللغوية، أو لنقل إزاء العديد من الملابسات التي تجعل اللغة إنجازية، ولعل المؤسسة القضائية وما لها من سلطة وتأثير لها دور في تحقيق هذه الغايات.

فسلطة القاضي – مثلاً – في المحكمة أقوى منها في محيط آخر؛ لأنَّ المحكمة هي الإطار الذي يمنح خطابه صفة الفعل المُنجَز من هنا تبرز أهمية مفهوم المؤسسة في التحليل “التداولي” .

فللسلطة أثرٌ كبيرٌ في إنتاج الخطاب ومنحه قوته الإنجازية، فلا يستطيع غير القاضي أن يُصدِر حكماً أو أن يفصل في قضيةٍ اجتماعيةٍ، حتى لو كان الحكم صحيحاً من الناحية النظرية؛ لأنَّه لا يمتلك السلطة التي تخوله فعل ذلك.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: