رسالة إلى والدي

رسالة إلى والدي

د. علي زين العابدين الحسيني |كاتب وأديب أزهري

 

أعزّ الله سيدي الوالد أستاذ الأجيال المربي الرؤوف، ومتعني برضاه السني طول العمر!

ها أنا، يا مربّي الأجيال! قد غبتُ عنكَ وتركتُ الألفةَ والاستئناسَ بك رغبةً في تحصيلِ المعرفة. وجُلُّ رجائي في ذلك كلّه الانتفاعُ في ديني ودنياي. بيدَ أنّ بُعدي عنكم قد أطفأْتُ بيديّ بريقَ ضوءٍ كان يُنِير الدربَ لي ويرشدني، وودّعتُ راحةً كانت تسكن أرجاءَ نفسي، وغادرتُ صدراً يتّسع لكلّ أحزاني، وابتعدتُ عن قلبٍ يستمتع بأحاديثي التي لا يملّ منها. وأنا يا سيدي في حياة غنية إلا عنك، شاكرة إلّا منك، فلا أعرف إلا نعمتك، ولا أجد لحياتي حاجة إلّا في ظلك. إنّي أعدكَ، رغم ما بيننا من مسافات، أنّي مستمرٌّ على نهجك الذي أرشدتنا إليه، وطريقك الذي قوّمتَنا وربّيتنا عليه، وما كان عليه آباؤنا وأجدادنا من آداب، فأخلاقك العَليّة ماثلة بين عينيّ، وأفعالك الزكية ملصقة بحياتي، فأنت مصور في قلبي بسلوكك، ومنطبع في ضميري بمآثرك، وإذا غابت عني طلعتك البهية فإن ذكرياتك أدنى من شمس السماء مني، وإني أنتظر بلهف أن أحضر إليكم لتتصل الواسطة بالعقد، ونحصل بكم على جنة الخلد بالدنيا، فلا تريد النفس إلا الاستئناس بقربك، ولا تستطيب إلا استماع فوائدك، تلك اللحظة التي أرصدها بأشدّ عواطف الشوق وشرف التعلق، أسترجع بها حياة الأنس بعد ابتعادي، وعلى هذا الأمل أعانقك بلاعج الحب، قد جمعتنا الروح فمن يفرقنا، وأبعدتنا الغربة فمن يجمعنا؟ كفى في غربتي بنصائحك أكبر ضمين للسلوى، وأفضل دواء لعلاج الفراق، وأجلّ نصير على الارتقاء. وإنّني على تعهّد من محبّتكم وخدمتكم، فلا يمرّ عليّ يوم ولا ليلة إلا دعوتُ لكم فيهما بما أرجو من الله قبولَه، ذلك وِرْدٌ عليّ محتومٌ في الحضر والسّفر، أترنم بذكرك، وأفتخر بمنهجك، وإنّي يا سيّدي أسألكم ألّا تنسوني من صالح دعواتكم في خَلَوَاتكم وجَلَوَاتكم، والدّعاء لي ببلوغ المُنى دنيا وأخرى. لا حرمني الله فضلكم وعنايتكم، وأحياني في رضاكم إلى آخر رمق في حياتي! يا أبتِ الحنون لقد عرفتُ مع صرخة ابني السيد محمد معنى الأبوة، فإني أرى فيه معنى الأبوة، أرى فيه نفسي معك، وأرى فيه حياتي كلها منذ ولدت وشملتني رعايتك، وبفضله فسح لي مجالًا رحيباً للوقوف على معاني البر وإبراز عواطف البنويّة، وأحيا في نفسي نفحات روحك، وفتح لي باباً للدعاء لكم والاعتراف بجميلكم، فألتمس منكم أن تذكروه في دعواتكم حتى ينال تلك البركة التي نلتها بسببكم، وهو خير ما أتمناه له، فهو ثمرة مباركة يفيض على قلبك المسرة، وتقرّ به عيناك، وعندي أمل أن ينشأ على صفاتك المحمودة، ويشب على آثارك الفريدة، ويتلقن منك ذاك النفس الروحاني الفريد المتصل بالأولياء والصالحين. وأفضل بشرى أزفها إليكم بعواطف حميمة أن أخبركم أن لي عدة كتب ستطبع لي في معرض القاهرة الدولي هذا العام، أودّ أن أقدمها لسيدي الوالد بمنزلة شاهد على ترقيتي في سلّم العلم، وهي دليلٌ على أن تربيتك وقعت في تربة مخصبة أتت أنفع الثمار، وأضيف إليها محبة قلبية تحمل من عرفان الجميل إليكم أفصح لغاته وأعظم ألفاظه وأسمى معانيه؛ فجد عليّ برضاك السامي! وثق أن شجرة غرسك لن تنفك تهدي إليك من مثل هذه الآثار العلمية التي لا ينقطع النفع بها، وحسبي من السعادة أن يعرف الجميع أنّك ذو رعاية كاملة لي في العلم وشؤونه وسبب ذاك، والعلم كالمال يحيي واهبه ويميت مَن يضنّ به. لقد غرستَ في المبادئ الصحيحة، وزينتَ نفسي بالفضائل الجميلة، وأرشدتني إلى الصفات المحمودة، وعلمتني الفرح بالسعادة قبل مجيء السعادة، ووضعتَ في أعماقي بصيرة ترى ما لا يُرى، وابتدعتَ في عاطفة تتأثر بما حولها، وألبستني ثوب الثقافة والمعرفة. أعاهدك سيدي على أنّي سلكت خطة قويمة تبهج خاطرك في الكتابة، وتيسر لي سبيل تحقيق آمالك، وتساعد على الانشغال بأعمالٍ جليلة تزيدني حظوة لديك وتمكنني من رضاك، فعسى أن يلقى ذلك من قلبك موضع السرور، فتهش لها لطفاً وكرماً، فخير الأعمال بقاء الآثار، وغاية المأمول أن تفيدني بملاحظاتك فيما أكتبه في الصحف والمجلات لأستأنس بها وأرقى إلى درجات العلا ومدارج العز بسببها؛ فاطرفني بها واثقاً بحرصي عليها واحتفاظي بها. وإذا كنتُ اليوم بعيداً عنك قاصراً عن القيام ببعض حقوقك فإن روحك لا يصعب عليها أن تعرف ما في صدري من الأسى بسبب ذلك، وأن تدرك ما في قلبي من العواطف البنوية وشعور الغربة الذي لا يبعده إلّا سرعة التفيؤ بظلك، وبذلك تتم بهجتي في هذه الدنيا. جزاكم الله كلّ خيرٍ ووقاكم كلّ ضيرٍ، وأسأله عزّ وجل أن يحفظكم بما يحفظُ به عبادَه الصّالحين، ويلبسكم لباسَ الصّحةِ والعافية، ويفيض عليكم جسام خيراته وجلائل بركاته لتحيى مديداً في منازل السعد وربوع العز، فلا زلتَ أساس عزي وفخري ومسرتي. وحسبي في الختام تقبيل يدك الشريفة عن بعد بأحرّ الأشواق والدعاء لك بطول العمر والتوفيق، واقبل من ابنك المجبول فؤاده على محبتك والاعتزاز بك كل عبارات التحية والإجلال، وثق أن جلّ أعمالي موقوفة على رضاك وإذنك في البعد والقرب، لا عدمت والداً مرشداً يحيي نفسي بنفحات إرشاده ورضاه!

والسّلامُ من ابنكم المحبّ الخادم لجنابكم، الصّادق في محبته لكم.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: