ظَاهِرَةُ البَقْشِيشِ

د: أحمد إبراهيم مرعوه
ابْتَدَعَ الْمُبْتَدِعُونَ الْأوَائِلُ بِدْعَةَ الْبَقْشِيشِ الَّتِي تَفَشَّتْ فِي الْمُجْتَمَعِ حَتَّى أَصْبَحَتْ ظَاهِرَةً يَصْعُبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَكَانَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَنْ كَوْنِهَا هَدِيَّةً بَسيطَةً، تُقَدَّمُ لِلْعَامِلِ بَعْدَ إِنْهَائِه بَعْضَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَدَّاهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، بِجَانِبِ أَجْرِهِ، وَمِنْ بَابِ الاعْتِرَافِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَدَّاهُ بِضَمِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَدُرْ فِي خُلْدِهِمْ، أَنَّ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ الْبَسيطَةَ الَّتِي كَانَتْ تَتَمَثَّلُ فِي بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ، وَالشَّاي وَالسِّيجَارَةِ، وَبَعْضِ النُّقُودِ سَتَتَطَوَّرُ لِتُصْبِحَ إِرْثًا ثقيلًا مَنَ (الْبَقْشِيشِ الَّذِي تَطَوَّرَتْ أَطْوَارُهُ وَغَرَائِزُهُ) وَتَطَوَّرَتْ نَوْعِيَاتُهُ وَكَمِّيَاتُهُ، إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى رِشْوَةٍ مُسَبَّقَةٍ، لِتَتَفَادَى الضَّرَرَ الَّذِي سَيُلْحِقُهُ الْعَامِلُ الْمَعْدُومُ الضَّمِيرَ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ، أَوْ يُلْحِقُهُ بِكَ أَنْتَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْ لَهُ نُقُودًا ،َ وَآهٍ لَوْ دَفَعْتَ لَهُ نُقُودًا، وَكَانَتْ قَلِيلَةً بَعْضَ الشَّيْءِ، تَعْتَبِرُ نَفْسَكَ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَدْفَعْ لَهُ شَيْئًا، وَعَلَى إثْرِ ذَلِكَ سَيَضُرُّكَ، أَوْ يَكُونُ وَقْحًا فَيُطَالِبُكَ بِالزِّيَادَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ (الَّتِي انْقَلَبَتْ فِيهَا الْمَعَايِيرُ) تَظْهَرُ أَنْتَ عَلَى أَنَّكَ مَعْدُومُ الذَّوْقِ، لِأَنَّكَ لَمْ تَسْتَطِعْ تَقْديرَ النَّاسِ، وَإِنْ حَاوَلَتْ أَنْ تَجْتَهِدَ وَتَسْأَلَهُ: مَا هِي طَلَبَاتُكَ يَا مُحْتَرَمُ، فَيُبَادِرُكَ بِمَقُولَةٍ: كُلُّكَ ذَوْقٌ يَا أَفَنْدِمُ، وَأَنْتَ وَذَوْقُكَ يَا بَاشَا!
إِنَّ ظَاهِرَةَ الْبَقْشِيشِ قَدْ تَطَوَّرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى أَصْبَحَتْ بِدْعَةً تُفْتَحُ بِهَا الْأَبْوَابُ الْمُغْلَقَةُ، كَمَا تَقُولُ: لُغَةُ الْبَلْطَجَةِ، َ لُغَةُ مَعْدُومِي الضَّمِيرِ، وَالَّتِي جَعَلُوهَا الْمِفْتَاحَ السِّحْرِيَّ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ عَصِيَّةٍ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ حَاوَلْتَ أَنْ تُقَاوِمَ هَذَا السَّرَطَانَ المُتَفَشِّي فِي الْمُجْتَمَعِ، قَاوَمَكَ كُلُّ ذِي مَنْفَعَةٍ .. حَتَّى تَقَنَّنَ فِي صُورَةِ رِشْوَةٍ تَصِلُ فِي بَعْضِ الأَحَايِينِ إِلَى الْمَلَاَيِينِ، وَهَذَا الْبَقْشِيشُ الَّذِي كَانَ لَا يَزِيدُ عَنْ جُنَيْهَاتٍ، تَطَوَّرَ لِيُصْبِحَ «سَيَّارَةً» أَوْ تَلِفَّ رَاجِلًا حَوْلَ أهْرَامَاتِ سَقَّارَةَ وَخُوفُو وَخَفْرَعَ وَمُنْقَرَعَ، حَتَّى تَشْعُرَ بِأَنَّ قَدَمَكَ بَدَأَ أَنْ يَنْخَلِعَ!
إِنَّ هَذَا الْإِرْثَ الثَّقِيلَ وَالْمُسَمَّى بِالْبَقْشِيشِ، أَصْبَحَتِ الْغَالِبِيَّةُ مِنَ النَّاسِ لَا تَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَهُ، وَهُوَ الَّذِي تَتَوَقَّفُ بِسَبَبِهِ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ (بِدُونِ دَفَعَهُ مُقَدَّمًا) لِهَذَا التَّسَوُّلِ الْمُتَمَثِّلِ فِي الرَّشَاوَى الَّتِي تَخَيَّلَهَا الْبَعْضُ عَلَى أَنَّهَا مَنْزُوعَةُ الْحُرْمَةِ، بِحُجَّةٍ أَنَّهَا تَتَمَثَّلُ فِي الدُّخَانِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، وَهَلْ يَتَسَوَّلُ النَّاسُ ذَلِكَ، ِ وَكَأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ.
وَانْتَشَرَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ حَتَّى تَفَرَّعَتْ وَتَشَعَّبَتْ مِنْهَا شُعَبٌ كَثِيرَةٌ لَا نُحْصِيهَا عَدَدًا، وَلَا نَسْتَطِيعُ السَّيْرَ بِمُحَاذَاتِهَا مَدَدًا، لِأَنَّهَا أَصْبَحَتْ مِثْلَ الظِّلِّ الْمُمَاثِلِ لِأَجْسَامِنَا، حَتَّى السَّفَرَ بِمُوَاصَلَاتِ الْقِطَاعِ الْعَامِّ والخَاصِّ، وَالَّتِي يَتَسَوَّلُ مِنْكَ قُوَّادُهَا (بَقْشِيشًا) بِجَانِبِ الْأُجْرَةِ الْمُسَعَّرَةِ، وَالَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي الآتِي: أَنَّكَ إِذَا مَا دَفَعْتَ الْأُجْرَةَ عَمَلَةً وَرَقِيَّةً، فَلَنْ تَجِدَ لَهَا مِنْ بَقِيَّة ٍ،حَتَّى تُرَدَّ إِلَيْكَ، بِحُجَّةِ عَدَمِ تَوَفُّرِ عَمَلَةٌ مَعْدِنِيَّةٌ أَوْ وَرَقِيَّةٌ تُضَاهِي البَاقِي مِنَ الْأُجْرَةِ، أَوْ أَعْطِنِي خَمْسَةَ قُرُوشٍ وَخُذْ مِنِّي جُنَيْهًا صَحِيحَ الآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ حَرْفُ عِلَّةٍ حَتَّى يُؤَخِّرَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْكَ، أَوْ تَأْخُذُ مَصَّاصَةً ِ أَوْ عُلْبَةَ ثِقَابِ، أَوْ تَصْمُتُ وَتَصْمُدُ، أَوْ تَأْخُذُ الْبَقِيَّةَ.. ضِمَادَةً لِجُرُوحِ الْقَلْبِ الْمَجْرُوحِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الْقُرُوحِ، أَوْ تَنْتَظِرُ السَّائِقَ فِي مرَّةٍ قَادِمَةٍ، وَالَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، أَوِ الَّتِي رُبَّمَا يُغَيِّرُ فِيهَا السَّائِقُ، أَوْ تَسْتَبْدِلُ السَّيَّارَةَ بِأُخْرَى، أَوْ تَحْتَرِقُ، أَوْ تَغُوصُ فِي الْمِيَاهِ بِسَبَبِ حَادِثٍ ألِيمٍ يَأْخُذُ فِي طَرِيقِهِ الْجُنَيْهَاتِ وَالْمَلَاَيِينَ، الْمُهِمُّ أَنْ تَنْتَظِرَ عَلَى أَمَلِ اللِّقَاءِ، حَتَّى تَزُولَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، أَوْ تَنْتَظِرَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ مَيْسَرَةٌ لِيُعْطِيكَ مِسْطَرَةً، أَوْ مِنْقَلَةً لِتَنْقُلَكَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ!
وَتَأَثَّرَتْ مَنَاحِي كَثِيرَةٌ فِي الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ، حَتَّى ظَهَرَتْ بِطُرُقِ كَثِيرَةٍ مُلْتَوَيَةٍ، فَمِنْهَا مَا يَرُدُّ بَقِيَّةَ الْمَبَالِغِ بِلَيْمُونَةٍ أَوْ لِبَانَةٍ أَوْ مَصَّاصَةٍ، أَوْ دَبُّوسِ مَشْبَكٍ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى دَبُّوسِ إِبْرَةٍ مَثَلًا، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ فِي زَمَنِ الغَرَابَةِ!
الهَامُّ هُنَا: أَنَّكَ تَدْفَعُ النُّقُودَ وَأَنْتَ فِي غَايَةِ الْخَجَلِ مِنْ طُرُقِ رَدِّ الْبَقِيَّةِ، أَمَّا الَّذِينَ اِخْتَرَعُوهَا وَقَنَّنُوهَا لَا تَجِدُ فِي وُجُوهِهِمْ أَدْنَى حَرَجٍ وَالْبَقِيَّةُ تَأْتِي لَاحِقًا!

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: