اللغة العربية والقرآن الكريم

البلاغة ممارسة تواصلية 30

د.أيمن أبومصطفى
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد،
فقد أمرنا الله تعالى بتدبر القرآن، وجعله منهج حياة، فالقرآن معجزة باقية، ولعل بقاءها مرتهن بكونها منهجا، وهذا المنهج الذي يضبط حياة الفرد والمجتمع والكون لابد وأن يتسم بعدة سمات وهي:
– الثبات.
– الديمومة.
– الاتساع.
وهذه المميزات أو الخصائص التي يتسم بها كل منهج يريد أن يكون باقيا تشكل عتبات تسقط مع كل عتبة كثير من المناهج التي ظن أصحابها أنها يمكن أن تحقق الخلود، فكل منهج لا يتسم بهذه الصفات لا يعد منهجا صحيحا يمكن التعويل عليه.
فالثبات أمر مهم وهو في نفس الوقت أمر شبه مستحيل، لأن الثبات يحتاج إلى لغة لا تتغير، واللغات في تغير مستمر، وهناك لغات تولد وأخرى تموت.
فحينما يأتي القرآن بوصفه منهجا خاتما يضبط حركة الكون ، فلابد وأنه سيواجه عدة تحديات منها (التغير اللغوي) و (التطور الدلالي) ، ولكنه برغم ذلك حقق ثباتا ، وهذا الثبات يرجع إلى أنه جاء في هيكل لغوي ثابت، نعم هيكل لغوي ثابت، هيكل لغوي اتسم بتواتره، فتواتر اللغة أمر واضح لا شك فيه،فقد اقتضت إرادة الله تعالى أن يجمع العرب في الجاهلية على لهجة واحدة هي لهجة قريش التي نزل بها القرآن الكريم، وانتقاء هذه اللهجة التي يعرفها الجميع جعل لغة القرآن لغة أوسع استعمالا وأكثر انضباطا، ومن ثم تصبح هي اللغة الرسمية للدعوة الإسلامية، وتنتقل إلى الأمم والشعوب الأخرى خلال انتشار الإسلام،وتكون هي المهيمنة، وتترجم بها آداب وعلوم الثقافات والحضارات الأخرى، ويقبل على تعلمها المسلمون الجدد، ويجيدونها نحوا وصرفا وبلاغة وعروضا.
ولن أقارن بين لغة العرب وغيرها من اللغات التي ربما مع تقدم الزمن أصبحت بعض كلماتهم حفريات تاريخية، لاتحمل دلالة ولا تحقق تواصلا.
لكنك مع اللغة العربية تجد نفسك تستحضر من خلال اللفظ دلالة الزمان والمكان والتاريخ، وبذلك تنتقل اللغة من زمن إلى زمن ومن جيل إلى جيل محفوظة في الأذهان؛ لكونها مرتبطة بلغة المنهج الذي أنزله الله تعالى وتعهد بحفظه.
أما الديمومة فأنت تقف عليها من خلال المجاز، فاللفظ الواحد يستخدم في سياقات مختلفة لينتج دلالات متفاوتة، وهذه السمة المجازية في اللغة هي التي تكسبها سمة اتساعية.
فالمجاز حياة اللغة، والحياة استخدام للغة بشكل مجازي، فلا يخلو حديث أو حوار من استخدام المجاز بقصد أو بغير قصد ، بقصد أي في الخطابات الأدبية، وبغير قصد في الخطابات التي ماتت فيها الدلالة المجازية فأصبحت مع التداول حقيقة.
فاللفظة القرآنية ليست لفظة تواصلية فقط، وإنما هي فوق التواصل تنقل لك دلالات نفسية تصور لك الموقف وكأنك تراه، فأنت تعيش المعنى بكل حواسك، فأنت حينما تقف على (زحزح) فأنت تستشعر تلك المعاناة التي يلاقيها المزحزح عن النار، كذلك حينما تقرأ (تراءى الجمعان) تستشعر مهابة الموقف، فأنت ترى صورة تجمع فرعون وجنوده، يتبعون موسى عليه السلام وأتباعه، وقد رأى أصحاب موسى البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فظنوا الهلاك.
وهكذا تنقل لكل الألفاظ إيحاءات نفسية، وقد التفت إلى ذلك عبد القاهر الجرجاني(ت: 471 ه‍ )حينما يتكلم عن الدلالة من خلال نظرية النظم لديه،فإنما يتكلم عن الصيغة الفنية التي خلص إليها في شأن الدلالة،يقول عبد القاهر :« وجب أن يعلم مدلول اللفظ ليس هو وجود المعنى أو عدمه،ولكن الحكم بوجود المعنى أوعدمه » ( )فالألفاظ دالة على المعاني لاشك ،ولكن الحكم القطعي عقلياً بوجود المعاني التي تدل عليها الألفاظ هو الأمر المبحوث عنه وجوداً أو عدماً، وكأنه بذلك يريد الفائدة المتوخاة عند إطلاق الألفاظ على المعاني المقصودة.
فهنا ننتقل إلى مسألة مهمة جدا، وهي علاقة اللفظ بالمعنى، وعلاقة المعنى بالسياق، وعلاقة الدلالة بالنفس، وقد ربط عبد القاهر بين دلالة الألفاظ وعلم النفس في جملة من أضافته القيمة ( ).
فالألفاظ إنما تحمل الدلالات التي تكتشفها النفس بالنظر في المعاجم واستعمال العرب، ولذلك جاء الأمر بالتدبر، وليس فقط القراءة، والتدبر يعني إطالة النظر في النص لاستكشاف معانيه.
ومن جماليات التدبر أنك تستشعر من خلاله المعنى، فـ « إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن وأنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه ، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك ، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة في أفهام السامعين وأذهانهم » ( )
فأنت حين تستشعر دلالة الألفاظ القرآنية تتمثلها، فإن تمثلتها وصلت إلى التفاعل معها، وإن وصلت إلى التفاعل حققت الهدف المرجو ، واكتسبت قيما تعينك على الحياة في أمن وأمان واستقرار.
ولذا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : تعاهدوا القرآن ، فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عُقُلها” فلفظ (تعاهدوا) بصيغة (المفاعلة) يدل على أن الذي يتعهد القرآن يتعهده القرآنُ.
فكل لفظ في العربية ينفرد عن غيره بمدلوله وإيحاءاته، بحيث لا يشاركه لفظ آخر في ذلك المدلول والإيحاء، فـ” ينـدر في الكلمات العربية أن تتطابق لفظتان تطابقاً تاماً في أداء معنى ما، فلكل كلمة شحنتها المعنوية الخاصة التي يعجز غيرها عن حملها “( ). وهذه الفروقات الدقيقة بين معاني الكلمات، دفعت بكثير من العلماء والباحثين إلى إنكار وقوع الترادف في ألفاظ اللغة العربية، فضلاً عن إنكار وقوعها في القرآن الكريم حيث إن من أسباب إعجاز البيان القرآني اصطفاء الألفاظ فيه، إذ تأخذ بدقة معانيها الألباب، وتتقطع دونها الأسباب، فلا تجد فيه ترادفاً( )، لأن كل كلمة فيه تستقل بمعنى دقيق لا يؤدى بغيرها من الكلمات.
وهذا يجعلنا ندرك السـر في إيثـار كلمة على أخرى في السـياق القرآني الذي يتخيـر من المواد أشـرفها وأقربها رحماً بالمعنى( )، “بحيث لا تند لفظة ولا تتخلف كلمة”( ).
هذا وبالله التوفيق .

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: