ناقد الجيل محمد دحروج ومناقشة علمية لكتاب ” حديث الأموات” تأليف الدكتور علي زين العابدين الحسيني ( الحلقة الأولى ) كلمة بين يدي الحديث

محمد دحروج

إنَّ التراجم وسِير الأعيان هو الفنُّ الذي حفظت به الأُمَّـة مسيرة رجالها وكفاح أبنائها في علم وعمل ، ولولا ما حفظ لنا المؤرِّخون من تراجم الأوائل والأواخر لما وجدنا الأمثلة والمواقف والمشاهد التي نستحضرها مع الأحداث قيامًا باحتذاء ما سلكه من هم موضع القدوة وأنموذج التمثُّل، ولستُ أُبالغُ إذا ما قلتُ إنَّ هذه التواليف التي ضمَّت حكايات الرجال أولي النباهة وأخبار الأعيان ذوي الذكر الحسَن ؛ هي العُمْدَة في سَيـْر الفرد منَّا على طريق من طرق الـخير ارتضاه ، وفق منهج احتذاه . وإنَّ ثقافة تـخلو من أمثال هذه الـجهود لهي ثـقافة منقوصة ، وآية نقصها أنَّ أبناءها يقومون فيها قيام الُمنقطِع الذي يعجز عن إدراك الـمعاني السَّامية وإيصالِـها لـمن هو بين ظهرانيهم كونه لـم يقف على حقائق أصحاب الهمم وأرباب الأهداف الكُبرى ، فمهما امتلك من مقوِّمات الذات الإنسانية السَّويـَّة فـإنه لا بُـدَّ أن يضطرب مرات ومرات عقيب خطوب لـم يحسب لها حسابـًا ، وأمام ابتلاءات لـم يعرف كيف يثبتُ قُـدَّامها ؛ إذ امتلاكُه للنصِّ حِفظًا لا يعني قُـدرتـه على التعامل معه ، إذ قـد تردُّه الحيرة صامتًا صَمْتَ العِيِّ لغياب المنهج القائم على استقراء تعامل الأفـذاذ والأشراف مع مثل ما يقع له وما يـُصابُ بـه، ولا يكون ذلك إلَّا استخراجًا مِن علم الرجال وفـنِّ التراجم والسِّير .

(( وإذا كان هناك مَن يـُؤرِّخون للنهضات في ظلال مُـثُـلِها المرموقة ، واتجاهاتها الهادفة ؛ فـإنَّ تـأريخ هذه النهضات من حديث أبطالها المجاهدين يـُقدِّم الوجه الثاني مِن هذا التأريخ ، وهو لونٌ يجـدُ الترحيبَ مِن قُـرَّائِـه ؛ إذ يتخلَّـلُـه منَ الُمتعة العقلية والنفسية ما يـُساعد على استيعابه وتمثيله ، وبخاصَّة إذا كان العاملون تـحت راية الإسلام لا يـجـدُون التقدير المنصف مِنْ رجال الإعلام في دنيا الصحافة والإذاعة على أوسع نطاقٍ يجـذبُ أنظار الجماهير ! ؛ وهو إهمالٌ تبحثُ عن دوافعه الأليمة فيلفحك شرارُ الغضب ، وبخاصَّة حين تجـد الترويج الرخيص لأناسٍ لـم يبلُغوا مِعشار ما بلغه هؤلاء المكافحون ؛ ولكنَّ الغرض يـُعمِي ويـُصِمّ ، فلا أقـلَّ مِن أن يقوم تلاميذ هؤلاء المستشهدين في حَـوْمَـة الإصلاح الدِّينيّ بحقِّهم الأكيد في الاحتفال والتنويه . )) ( 1 )  .

إنَّ ثقافةً راهنةً تعيشُها مصر ، تـُعوِّلُ أكثر ما تـُعوِّلُ على الشِّعر ؛ هي ثقافةٌ تؤذنُ بالتراجع عن دورها التاريخيِّ الذي عُـرِفَ طوال عهد هذه الأمَّة منذ عقودٍ مُغرِقةٍ في التاريخ الإسلاميِّ ، ودليلُ ذلك أنَّ شعرًا لـم نجـد بـه مـا يُـناقشُ هموم أبناء هذه الأرض ، أو يـُقوِّمُ مسلكًا إنسانيًّا ، أو يدعو إلى فضيلةٍ أخلاقيةٍ ؛ لهو أكبر شاهدٍ على ضُمُورِ مفهوم الثقافة وعيًا وتحصيلاً ومباحثةً في عقول الكثرة الكاثرة من أبناء هذا الجيل ، وإذا كان ذلك كذلك ؛ فما مِن غرابةٍ أنْ يتلفَّف هذا الجنسُ الأدبيُّ في عقول المتعاطين له والقائمين عليه  بعباءة من الادِّعاء الباطل تحت مسمَّيات طنَّـانة ، من الدفاع عن العربية ، والذَّوْد عن علم الخليل بن أحمد ، وما إلى ذلك مِن تلك الكلمات المرذولة التي لا تـدُلُّ إلَّا على استخفاء حظِّ النفس وراء دعوى ممجوجة ، والرغبة في الاستعلان بالغرائز الحيوانية خلف ساترٍ منَ الأباطيل المحجوجة ، والكِبْرِ الطفوليِّ الذي يخشى مواجهة الحقيقة كى لا تفجؤه المرآة بحجم جهله المعرفي وضخامة جُبنِه عن أداء دوره الحضاريِّ = ولهذا فـإنَّ كتابـًا كـ ( حـديث الأموات ) ، كانَ مِنَ المنتظر أنْ أتهيَّـأ له وأنْ أُدافعَ عنه وأنْ أُحاججَ دُونـه ، لا لمودَّةٍ بيني وبين صانعه ؛ وإنَّما ليكون هذا العمل بمثابة نقطة الضوء التي تصدم العقول في مُستنقع الثقافة الجماهيرية في مصر ، عسَى أنْ نجـد طريقًا نحـو يقظة ثقافية حقيقية ، نـُواري بالقِلَّة التي تـُشمِّرُ لها سوأةً أصحبت ظاهرةً جليَّـةً في تاريخنا الثقافي المعاصر على المستويين ،  القلميّ والأخلاقي معًا.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: