آلةٌ خَرِبَة

غادة صلاح الدين

في كل مرة تذهب ريهام لمتجر الأجهزة المنزلية؛ لتشتري أحدث المنتجات من آلات الطبخ (البوتجاز)؛ حتى حفظها كل من كانوا يعملون هناك. ظنها بعضهم تتاجر بها، وظن بعضهم الآخر أنها تتبرع بها للعرائس غير القادرات.

ريهام الأنيقة الجميلة ابنة الرابعة والثلاثين، لمحت هذه الحيرة والأسئلة الصامتة في أعينهم مرة تلو الأخرى؛ ولم تكن تبالي.

غير أنها كانت تحدث نفسها أجننت أنا أم ماذا؟ وسرعان ما تعود إلى الواقع وتتابع تفقدها بعناية لكل جهاز قبل شرائه، كأنه الجهاز الأول الذي ستشتريه ليزين مطبخها.

عند عودتها للمنزل لاحظت ان مطبخها امتلأ عن آخره؛ لم يعد به مكان لوضع بوتجاز جديد.

لكن في زاوية بعيدة كانت توجد آلة بدائية جدا (البابور) تحتفظ بها، هي آخر علاقة لها بماضٍ رحل ولن يعود.

نظرت إليه بحزن وأسى! تكاد عيناها تفتك به وتحنو عليه في نفس الوقت.

تذكرت يوم أن ذهبت إلى عم “ميمي” ليصلح هذه الآلة الخربة في يوم ممطر شديد البرد تعلن فيه السماء اعتراضها على سكون الأرض، التي استقبلت الدموع القاسية، يتبعها صوت نشيج الرعد، ويضيء البرق قلوبا طالت عتمتها.

وبعد معاناة شديدة وصلت إليه تستجديه أن يُصلحه؛ لأجل هذا الطفل الكبير الذي سكن قلب والدها، وأجبره الحنين في هذا اليوم أن ينام على وشيش هذه الآلة، رغم معارضتها للفكرة ومواجهتها له قائلة: إن هذا البابور خطر جدا على حياتك وإنه يحرق الأكسجين، أخشى عليك منه.

إلا أن تصميم الأب كان حائلا بينها وبين ما يقوله العلم والمنطق، وأن الحنين يسيطر عليه ليتذكر أيامه الأولى في هذا البيت البسيط الذي جمعه وإخوته ووالده وزوجته الحنون؛ التي أحسنت معاملتهم وربتهم كما الأم الرؤوم؛ مما دفع ريهام أن تذهب للبحث عن فني صيانة يصلح ما أفسده الزمن دون علم والدها.

ظلت ريهام تبحث بسيارتها لأكثر من ساعة في هذا الجو الذي يبعث في نفسها الرهبة والخوف، فهي ترى جميع البشر أشباحا من خلف زجاج السيارة؛ لا يدفعها للتعامل معهم إلا هذه الآلة الخربة.

وبعد سؤالها لأكثر من شخص، توصلت إلى فني يبعد عن بيتهم قرابة نصف ساعة، وحين وصلت كان الرجل على وشك الانصراف، فاعترضته قبل أن يغلق باب ورشته، وقالت له:

“أبي رجل مسن أريد أن يدخل الفرح قلبه وهو يريد أن يشعل البابور؛ لينام على وشيشه! أستحلفك بالله يا عم ميمي أن تصلحه، أتمنى أن أسعده، وأحقق له طلبه. وأكدت له أنها ستعطيه ما يريد وأكثر، فرَقَّ الرجل لحالها ففتح الباب ودعاها للجلوس داخل المحل لغزارة المطر.

قبل أن تنتهي السماء من البكاء، أخذ الرجل يصلح البابور وهو يقول محدثا نفسه “يسلم الراجل اللي رباكي” وانتهى من إصلاحه وقال: “خلاص يا ستي اتصلح البابور وبقى زي الفل سلميلي على الحاج”. ورأى لمعة عينيها وفرحتها بما فعلت لأجل أبيها.

ودَّعَها حتى ابتعدت بسيارتها السوداء وسط الغيوم والأمطار، والبرق يعلن فرحة أبيها حين فاجأته بصوت البابور وهو يشاهد التلفاز، ويتابع الأخبار، وانهال عليها بالدعوات الطيبة غير مصدق ما رأته عيناه.

من فرحتهِ قام واقفا ليأخذه منها ويدور به كأنه يراقصه ويتمتم “فين أيامك”، وأخذ يقبل رأسها بعد أن وضعه أمامه، وأخذ يحكي لأحفاده عن ذكرياته، وكيف كان يذاكر على صوته، وعن مشاجرته مع إخوته من سيأخذ البابور إلى غرفتهِ أولا.

وبينما هو منهمك في الحكايات دخلت ريهام وفي يدها ثمار أبو فروة ليشويه على ناره؛ وإبريق الشاي وكل ما كان يحكي عنه لهم من ذكرياته.

كانت فقط تريد أن تسعده بأشياء محببة إلى نفسه؛ فتهللت أساريره، وقال لها: “لا حرمتك يا ابنتي” وسكت برهة وقال: “أنت أم أبيكِ”.

بعدما انتهت من تحقيق أمنياته الصغيرة، ذهبت ريهام إلى غرفتها تاركة صوت البابور يتغلغل داخل قلبه، وابتسامته تنير وجهه وصوته يعيده إلى شبابه الذي ما غاب عنه قَط.

في الصباح دخلت ريهام غرفته كعادتها توقظه من نومه وتعد له الفطور، لكن ذكرياته الجميلة سبقتها وأرهقت قلبه المليء بالطفولة وصعدت بروحه إلى السماء التي بكت أمس لتظل هي باكية ما تبقى من حياتها.

بعد هذا اليوم الكئيب، وقفت ريهام في مطبخها منكسرة حزينة بين الفقد والذكرى، بين الماضي الذي يفرض نفسه على الحاضر المكبل بالحنين، وسنوات من الوجع والألم لا تنتهي.

تنظر إلى (البابور) بحرقة لا تعرف ماذا تفعل به؟ أتتخلص منه أم تعود إليه كلما مزقها الشوق؟.

برقت في مخيلتها تلك الشابة اللطيفة ليلى التي أعطتها عشرة جنيهات على سبيل الإكرامية، يوم اشترت آخر البوتجازات فدعت لها وقالت: “ربنا يخليكي يا مدام ريهام عشان بتعملي الخير، وعارفة إنك بتوزعيهم لوجه الله، انا هتجوز كمان شهرين”.

تركتها ريهام يومها، وفهمت حاجة الفتاة للمساعدة، لكنها كانت مشوشة من الحزن، فانصرفت ولم تعدها بشيء.

دون أن تدري أسرعت إلى غرفتها، أمسكت هاتفها واتصلت بمتجر البوتجازات، وطلبت من المدير رقم ليلى.

حاول أن يعرف السبب وأخذ يسأل بفضول، لكنها طمأنته قائلة: أريدها في خير.

عندما سمعت صوت ليلى عبر الهاتف قالت: أريد أن أراك غدا يا ليلى، هذا عنواني وتليفوني، سأنتظرك في الصباح.

حضرت ليلى ولم تتوقع إطلاقا أن تخيرها مدام ريهام أي البوتجازات تريد.

نزلت والفرحة تكسو ملامحها ومعها ريهام، ولكنها ذهبت لتزور قبر والدها وتقول له: الآن سوف تحصد بعضَ ما زرعت يا أبي.

أصبحت ريهام في غضون سنوات صاحبة أكبر مؤسسة خيرية لتجهيز العرائس اليتيمات والفقيرات. وانتقل البابور من المطبخ ليوضع في بهو المؤسسة داخل دولاب زجاجي.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: