قراءة في ديوان وتنفست شهرزاد – للشاعرة فوزية شاهين  

بقلم الناقد: عبد الله جمعة
أسألت نفسك يوما ؛ ما الشاعر ؟
كثر من يلقبون أنفسهم بهذا اللقب استحسانا ورغبة في ارتداء عمامة المفكرين ؛ أداركا منهم أن هذه المنحة لا تؤتى إلا لحكيم امتلك ناصية الحكمة , ولكن هيهات فليس كل من أعلن نفسه شاعرا بشاعر …
إن الشاعر الحقيقي لهو القادر على تحريك همم الناس وتحفيزها على تأدية النشاط السلوكي المثالي المأمول بصورة لا يستطيع غيره القيام بها وهو القادر على حمل الجمهور على تبني قيم سلوكية لم يكن ليتبناها لو لم يجد هذا الدفع من الشاعر
وجميعنا يذكر تلك الأبيات التي نسجها أبو القاسم الشابي :
إِذَا الشَّعْبُ يَوْمَاً أَرَادَ الحَيَاةَ
فَلَابُدَّ أَنْ يَسْتَجِيْبَ القَدَرْ
وَلَابُدَّ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِي
وَلَابُدَّ لِلقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِرْ
وكثيرا ما سألت نفسي ؛ ما سر خلود تلك الأبيات على الرغم من خلوها من كل عناصر الدهشة الشعرية أو القوالب البلاغية الصارخة ذات المدلول الخارق للمألوف ؟ ..
لقد نجحت هذه الأبيات في مساس مشاعر الجمهور والتقت معه في لحظات فارقة من حياته فوجدها الجمهور أصدق القوالب التعبيرية المعبرة عن حاله وجدانيا فكريا ولغويا وصوتيا وحتى موسيقيا فعبرت حدود بلدها وحلقت في آفاق جغرافية أوسع من جغرافية شهرة قائلها حتى لا يكاد يذكر بين عامة الجماهير الناطقة بالعربية إلا بها
إذن فالشاعر له مهام متعددة تبدأ من المهام الوجدانية إلى الفكرية مرورا باللغوية والصوتية ثم الموسيقية …
فلو أردنا أن نستعرض مثلا دورا من هذه الأدوار ؛ وليكن الدور اللغوي سنجد الشاعر أحد أهم محدثي الظواهر اللغوية في المجتمع فليس من دور عالم اللغة أن ينحت اشتقاقا جديدا بل دوره الرئيس ينحصر في ملاحظة الظواهر اللغوية التي تنشأ , وهذا الدور موكول للشاعر كأحد أهم أدواره .. وفي ذات يوم وفي إحدى الإمسيات الشعرية استمعت شاعرا كبيرا يلقي جملة شعرية يقول فيها ” بَوْصِلْ حَيَاتَكَ ” لقد نجح هذا الشاعر في صهر الجامد وتحريكه زمنيا ليتحول إلى أصل اشتقاقي من خلال صياغته في فعل فإن وجد هذا الاشتقاق طريقا إلى أن يكون ظاهرة لغوية لتم رصده ولتحول هذا الفعل إلى مادة معجمية جديدة تضاف لرصيد اللغة
لقد أشار ” شارل بالي ” في كتابه { بحث في علم الأسلوب الفرنسي } وهو العلم الذي يدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية محتواها العاطفي إلى أهمية اللغة وارتباطها بالطابع العاطفي ومن ثم يتحول الأديب مع اللغة كـ ” بنيولوبي ” التي كانت تنقض ما تغزله ثم تعود إلى غزله مرة أخرى …
ومن ثم أصبح التعبير موقوفا على أمرين : (1) ذكاء الإنسان . (2) حساسية الإنسان
ونحن اليوم بصدد تناول ديوان شعري للشاعرة – فوزية شاهين – نجحت في الجمع بين الحسنيين ؛ ذكاء اللغة وحساسية اللغة .. فهي تملك من الذكاء اللغوي ما أهلها للإمساك بناصية اللغة وتطويعها لما تشاء أن تعبر عنه من حساسية مفرطة تجاه الأشياء ومن ثم جاء شعرها متفردا خاصا وكأنه رأس العلم الذي يطاول السحب بارزا بين مسطحات شعرية لا يكاد يبدو من بينها بارز أو شهي ..
تقول في قصيدة ” حاءٌ وباءٌ ”
لَوْ مَا احْتَضَنْتَ أُنُوثَتِي مُنْذُ الصِّغَرْ
وَسَقَيْتَ قَلْبِي مِنْ حَنَانِكَ لَانْدَثَرْ
أَنْتَ الذِي أَعْطَى الخُلُودَ لِنَبْضِهِ
وَمَنَحْتَهُ عَرْشَ الهَوَى دُوْنَ البَشَْْر
إِنِّي أُحُبُّكَ فِي الدَّفَاتِرِ قُلْتُهَا
وَعَزَفْتُهَا لَحْنَاً يُنَاغِيْهِ الوَتَرْ
وَتَكَادُ مِنْ فَرْطِ الغَرَامِ أَصَابِعِي
أَنْ تَنْقُشَ اسْمَكَ فَوْقَ وَجْنَاتِ القَمَرْ
” حاء وباء ” عنوان دارج لموضوع هالك في التناول الشعري على مر العصور ولكن الشاعرة حققت من خلاله دفقة شعرية راقية المستوى عميقة الدلالة محدثة دهشة شعرية من خلال أمرين هي تمتلكهما دون غيرها من الشواعر ؛ ذكاء اللغة و حساسية اللغة
” لو ما احتضنت أنوثتي منذ الصغر .. وسقيت قلبي من حنانك لاندثر ” بدأت قصيدتها بــ ” لو ” لتفيد الامتناع للامتناع ؛ امتناع الاندثار لامتناع نفي الاحتضان ونفي السقيا وكأنها تقول له : لقد خُلِقَتْ أنوثتي لكي تحتضنها أنت ولا أحد سواك خُلِقَتْ أنوثتي من أجله … لقد بدأت بذكاء لغوي منقطع النظير وابتعدت تماما عن المباشرة اللغوية .. فاللغة المباشرة تدخل من مدخل مباشر مؤداه : أنت الذي احتضنت أنوثتي منذ الصغر وسقيت قلبي من حنانك فعاش قلبي وما اندثر.. ولكنها اعتمدت الدخول إلى المعنى المراد من خلال الشرط وبوابة نفيه .. نفي عدم الاحتضان لأنوثتها ثم نفي انتفاء السقيا حتى تحقق الجواب وهو عدم اندثار قلبها فكان المدخل إلى الحدث الشعري المراد توصيله مدخلا جديدا مُثْبِتَاً مدى ذكائها اللغوي ومدى قدرتها على الإحساس العالي بأن الموضوع هالك في الشعر ومن ثم لابد من البحث عن مدخل لغوي غير مألوف …
ثم تقول ” وتكاد من فرط الغرام أصابعي .. أن تنقش اسمك فوق وجنات القمر ” يقول ” شارل بالي ” : إن الفكر ليس خاضعا تماما للعقل ولكنه يطوعه كي يخدم أغراضه وقد يستغني عنه إذا لزم الأمر فالأفعال التي يأتيها الأشخاص ليست معقولة دائما بل بعضها عبث من وجهة النظر المنطقية على اعتبار أن مبدأ المنطق هو الثبات بينما الحياة تيار متصل من الاندفاعات والتحولات …
وهنا في هذا البيت خرجت الشاعرة عن ثوابت المنطق إلى اللا معقول فجعلته معقولا حيث وصلت بها شدة الوجد أنها كادت أن تنقش اسم حبيبها على وجنات القمر ”
لقد قدم ” جيراو ” أحد أتباع مدرسة ” بالي ” والذي حدد مستويات الدراسة الأسلوبية للقيم التعبيرية على النحو التالي :
• اللهجة : حيث قسم اللهجة إلى ثلاث مستويات :
– منخفضة : وهي لهجة البيت والمقهى والشارع
– متوسطة : وهي لهجة المهنة والمكتب والعلاقات الاجتماعية
– رفيعة : وهي لهجة المناسبات الخاصة والخطب والمواقف العامة
فكل منا يستخدم هذه اللهجات الثلاث في مناسباتها والخلط الواعي أو اللاشعوري بينها ليقدم وسائل تعبيرية متكاثرة مما تنجم عنه تنويعات أسلوبية عديدة
ومن هذا الباب فإن شاعرتنا ” فوزية شاهين ” قد مارست هذا التنويع في ديوانها فنجحت في أن تصل إلى كل الطبقات المجتمعية من أدناها إلى أعلاها برشاقة أسلوبية لم تخرج عن إطار الفصيح دون أن تخرج مستوى القهوة والشارع من دائرة الوعي بتجربتها الشعرية
ففي قصيدتها ” الفراعين ” تنقلت الشاعرة بين مستويات التعبير الثلاثة إذ تقول :
لَعَبُوا
عَلَى حَبْلِ السِّيَاسَهْ
نَصَبُوا الخِيَامَ عَلَى العُقُولِ
لِكَيْ
تَرَى فَرَسَ الرِّئَاسَهْ
إن هذا المستوى اللغوي حين يسقط في دائرة وعي المتلقي أيا كان مستواه الفكري أو الثقافي فسوف يضع وعيه على حقيقة التجربة الشعرية التي أرادت الشاعرة أن تدخلها فالتعبير بقوله ” لعبوا على حبل السياسة ” وإن كان فصيحا إلا أنه يصل إلى مستوى وعي أدنى المستويات التي عرضنا لها وهي وعي من يلهج بلهجة البيت و القهوة والشارع بالرغم من أنها لغة فصيحة ثم تبدأ الشاعرة في الارتقاء بأسلوبها شيئا فشيئا مارَّةً بالمستوى التالي في أسطرها الشعرية التالية حتى تصل إلى قمة المستويات وهو المستوى الرفيع فتقول :
نَصَبُوا السُّرَادِقَ بَيْنَ أَخْبِيَةِ الجَوَارِي وَالقِيَانْ
وَتَعَمَّدُوا أَنْ يَلْثمَ المَسْجُونُ
قَسْرَاً
قَبْضَةَ السَّجَّانْ
هنا وصلت إلى إحكام النسج في سبك عالٍ لا يُدْرَكُ إلا لذي لهجة رفيعة حيت اعتلت سلم الترميز الشعري لتحقق القيمة التعبيرية الأولى التي حققها ” جيراو ”
• الطبقات والطوائف الاجتماعية :
فيذكر ” جيراو ” أن لكل طبقة مفرداتها وتراكيبها وكثيرا ما يستخدم الكتاب هذه الفوارق اللغوية بين الطبقات لرسم شخصياتهم كما أن كل طائفة تنزع إلى الاحتفاظ بأسلوبها مثل رجال الدين والقضاء والجامعة والبوليس وغيرهم فلكل منهم إشاراته واستعمالاته ومعجمه وظلاله وكلماته
وهنا نجحت فوزية شاهين في احتواء كل تلك الطبقات بمفرداتها وتراكيبها حتى توسع دائرة التلقي مما يحسب على ذكائها وكذلك حساسيتها اللغوية كما أعلن ” بالي ”
فمن ذلك تقول في قصيدتها ” لسنا نياما ” :
كَفَى الأَوْغَادُ غِلَّاً وَانْتِقَامَا
أَنَا الشَّعْبُ الذِي يَأْبَى انْهِزَامَا
أَنَا الشَّعْبُ الذِي قَدْ ثَارَ حُرَّاً
عَلَى الأَزْلَامِ يَقْتَلِعُ النِّظَامَا
……………
حُمَاةُ النِّيْلِ نَرْفُضُ كُلَّ ضَيْمٍ
وَفَوْقَ ضِفَافِهِ نَحْيَا كِرَامَا
……………
وَفِي الإِعْلَامِ تُطْلِقُ كُلَّ بُوقٍ
لِتَكْسِرَ بِالسَّفَاهَةِ مَا اسْتَقَامَا
لقد أيقنت الشاعرة بذكائها وحسها اللغوي أنها بقصيدتها هذه ستطال كل الطبقات التي تحيا في مجتمعها خاصة في أعقاب ثورتين فاستخدمت مفردات كل طبقة وتراكيبها بمنتهى البراعة حتى يرى كل متلق نفسه في القصيدة وحتى تنجح كل طبقة من طبقات المجتمع في تلقي القصيدة على وترها فطبقة المحاربين حملت لهم ” أنا الشعب الذي يأبى انهزاما ” وطبقة الثائرين حملت لهم ” على الأزلام يقتلع النظاما ” وطبقة الإعلاميين حملت لهم ” وفي الإعلام تطلق كل بوق ” ثم انطلقت لطبقة أخرى بقولها ” نحيا كراما ” إلخ … فكان هذا منتهى الذكاء اللغوي والحساسية اللغوية أيضا فأتت بتراكيب تمس كل طبقة فاتسعت دائرة التلقي على أوسع مدى ممكن

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: