إبداعات الشباب – أسماء أحمد وقصة “مُترامٍ”

إبداعات الشباب - أسماء أحمد وقصة "مُترامٍ"

عرض وتقديم دكتورة نهى مختار محمد 

كلية الألسن جامعة عين شمس

تبحث عن الجمال بين أوراق (مسابقة الإبداع) التي ينظمها قسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس بالقاهرة، فتجده هنا، في مثل هذه الصفحة المضيئة بقلم أديب يعرف كيف ينسج وينظم ويؤلف بين الكلمات لصناعة نص رائق يشبه الدّر المنظوم، قصة قصيرة لها الطابع الكلاسيكي الرصين بقلم أسماء أحمد محمد مرسي عبد المحسن من قسم اللغة الإنجليزية الذي يتميز دائما بأقلامه المبدعة، في خيط ممتد عبر الوقت والأجيال، خط يستطيع أن يعبر عن أعمق لحظة شعورية في وجدانك وينسج منها قصة تتغنى بجماليات السبك والحبك والتكوين والتصوير والاستعارة.

أفتش بين الأوراق لأجد ورقة ناطقة مُشَكّلة الحروف مكتوب عليها:

مُترامٍ

قِصة قصيرة بقلمِ أسماء أحمد البحراوي:

إنَّ الفِتنةَ محتومة، والغرامُ ويلٌ إن وقعَ فيهِ امرؤ بلا رادعٍ.

لا النسيمُ يُهديني توبةً مِن امرأة عقرت صوابِي، ولا اتكائي على حوافِ شُرفتي يتفضلُ علي براحةٍ آلت للزوال حالما فككتُ قيد دعوةٍ مَثلُت فوقَ طاولتِي لأشهُرٍ باسمِ المُماطلة. إنَّها ليلة خريفية بإمتيازٍ، تتخللُها برودةٌ وديعة، لا تُماثِل الزمهرير الجاري في نفسِي.

فوقَ الورقة المَطوية نُقِشَ قدرٌ مخفِيٌ قد أكونَ كاتِبُه أو فريستُه الجديدة، عيني لا تفتأُ تُطالع الحِبر بين اللحظةِ واللحظة، وعقلِي يتقلدُ منصِب المُفتِي، فَتوته الأخيرة كانت بأنِّي مخبولٌ بلا شك؛ فأنَّى لِي أن أُدعى إلى حفلٍ نجمتُه مَحت أواصري بالكامِل مِن خشباتِ مسارحها؟

عَزمت أنَّها آخر طلة لعيني على ما كُتِب، وبصوتٍ مسموع طارحت الكلمات لِساني:

“تنبعثُ في الدعواتِ رغباتٍ مكنونة، ويبعثُ حضوركَ فيَّ بهجة جليّة.”

لعدة ثوانِي، كُلِّي أبى أن ينصاعَ لهتافات فؤادي بأن أبرح مكانِي، كانَ عصيٌ علي أن أتخذَ قرارًا صائبًا بينما أنامِلي لا تكُفَ عن مُلامسة الدعوة مِن جهةٍ، وعيناي قد اتخذتا العُلبة المخملية التِي ارتضت خاتِمًا ألماسيًا ساكِنًا لها لعامين دونما إباء مِن جهةٍ أُخرى.

للحظةٍ سَمحتُ لجنود أفكارِي أن تعبثَ بِي أسيرًا لها، أهيَّ تدعونِي لأجلها؟ أ تودُ حقًا أن تُبصرني وتوصِل أحبال الفِراق التي امتدت لثلاثة أعوام؟ ولأنَّ سُم أفكاري ناقعٌ؛ ذعُن جسدِي وتنكَّبتُ عن مطرحِي سعيًا للوصول لخزانة ملابسي. بحسبِ الساعة، إن الوقت يُداهمني، كما يُداهمني الذي تبقى من عُمري والذي أسرفته على فراقٍ لا طائل مِنهُ.

سلبَ الوقتُ خمسة وعشرين دقيقة أُخرى، وبحلول الدقيقة السادسة والعشرين كُنتُ أُعاينُ مظهري في المِرآة لأخر مرة. صادَ صدى صوتُها أُذني، واستباحت ذكرى مِن ذكراها ذِهني. يومَ فِراقنا حينما طالعتني بأعُينٍ أهلكت فؤادي مرارًا ونبَثت:

“دومًا ما تُحسِّن جوي بنوعٍ فريدٍ مِن الفنَّ، ألا وهو أنتَ يا هارون.”

ومِن ثُم قطَبت حاجبيها واسترسلت بينما تُجردني مِن ربطة عُنقٍ لم تجرؤ على مسِّ أراضي مُجددًا:

“بلا ربطةٍ العنق هذهِ بالطبع.”

أفنيتُ عمر بقائي في منزلِي بمرور بضعةِ دقائق، كُنتُ أسيرُ حامِلًا أملًا لرُبما يكونُ وهميًا، شيئًا يُزيفه عقلِي ليجعلني أمضي قُدمًا، أسرفتُ في خطواتِي حتى أسرَعت في وصولي، هُناك وقفتُ في المدخل لبضعةٍ لحظاتٍ، آهٍ مِن هذهِ الليلة البديعة، وأنا المجذوبُ أينما يحملُني عطرُها.

كانَ العرضُ قد فاز في سباق وصولي وابتدأ بالفِعل، كذا صعودها على المِنصة. وآهٍ كم كانت بينيلوبي مُلتحفة بِرداءِ المَلاحَة، وكم كانَ صدرِي يفتقرُ لقُربها، وأنفِي يتوقُ لعبقِها، وفؤداي يتلو الوصَب أغانيَ.

امتدت يُسراي للاطمئنان بأنِّي قد اصطحبتُ الخاتم معي. إنَّهُ فُرصتي الوحيدة، ولربما الأخيرة. بقيتُ في الظلالِ، لا هي تُبصرني نورًا ولا ظلامًا. وإنما أنا هُنا، خلفها تمامًا، أُتتبعُ خُطاها الراقِصة بزهوٍ فوقَ مِنصةٍ خشبية. البالية لا يوفي بينيلوبي حقها مِن الحُسِن، وإنما هي مَن تُزيدُ معزوفاته ورقصاته حُسنًا وغِواية.

حينَ انقضاء العَرض، نَفرت موقعُها في المُنتصفِ وتقهقرت قدماها للخلفِ رويدًا. لم تلحظ وجودي فورًا، إنما احتكر القدرُ بضعةُ دقائق أُخرى، إلا أنها وجهت بصرَها يسارًا في الخِتام، وهُناك وقعت علي.

انشقَّ وجوم مُحياها وبَزغت بسمتُها الفاتِنة. انعقد لسانِي وسُجِنت العِباراتُ في حلقِي كذا العَبراتُ في مُقلي.  أنا مُعلقٌ بالهوى، هواها. وحياتِي لا تنفكُ عن اكتنافِ الغوى. أنا الصريعُ في ساحاتِها، وهي الجُندي البربري الذي يودي بحياتِي معركةً تلو الأخرى. باغتتني حينما لفت ذراعيها حول عُنقِي في ضمَّةٍ. خانني وعيي وبقيتُ كالصنمِ، لا أقوَ على التحرُكِ أو ضمها إلي أيضًا.

“كاد الأمل يغادرني، فتشتُ عنكَ مِرارًا بعيني، لكنَّك لم تكُن في وسطِ الحضور. خلِتُ أنَّك قد تخليتَ عني بالفِعل.”

أفصَحت عمَّا دار بُخلدها بعدما انفصل جسدها عني جُزئيًا. مازالت يديها ثقيلةٌ فوقَ كتفاي.

جُل ما كُنت قادِرًا على صياغته تعبيريًا مِن مُفاجئتي كانت بسمة بسيطة وجُملة:

“كيفَ أتخلى عنكِ يا بينيلوبي؟ إنِّي أتَّبُعكِ قلبًا وقالِبًا أينما كُنتِ.”

زعم عقلِي بُناءً على حديثها السابِق أن لِما بيننا بقية، وأنِي بخطوةٍ بسيطة قد أكونُ قادرًا على تلقيبها زوجتِي مُجددًا. صارعَت حضوري الصامِت ببسماتٍ تترددُ على مُحيط بصري بين اللهفة واللهفة بينما نسيرُ سويًا في العراءِ. كُنتُ قد طلبتُ مِنها سُلفًا أن نترجلُ للخارِج قليلًا، علَّ الهواء يُقوي أحرُفي ويَدعمُ كيانِي بما يصلُح جُملًا.

“لقد تمَّ استدعائي للقاعِدة مُجددًا.”

لوقع كلماتِي أثرٌ فرضَ عليها الوقوف، وقد أوقفتني معها لأنَّها شبَّكت ذراعها بِذراعي.

“لا يُعقل! لا يبدو أنَّك تعافيتَ بالكامِل يا هارون.”

نزفت عينيها نظرة استياء نحو قدمِي اليُسرى، كانت تُشير بحديثها إلى عرجتِي الخَفيفة؛ اِذا ابتسمتُ وأنا أُبيح لنفسِي فضِّ قداسة حيزها الشخصيّ ورفعتُ ذقنها إلي بسبابتي قائلًا:

“إنِّي أتحسن، لا داعِي لأن تقلقِي عليّ.”

ملَّ الوقتُ مِني، ومع مرورِ الدقائق بدأ يُهددني بزوالِه.

بعدما اهتدينا إلى بُقعةٍ مألوفة لكلينا بإحدى الحدائق العامة القريبة مِن المسرح، اتخذتُ مِقعدًا وإياها،كانَ المُحيط براقًا، ونفسِي تبرق فيها الطمأنينة شيئًا فشيءٍ.

مررتُ على عزيمتِي لأخر مرة، وشبكتُ أصابعِي سويًا مُستعدًا للاستهلال:

“لقد شكوتُ هُجرانكِ ليلًا ونهارًا. وبكيتُكِ وسلاحِي وافرٌ بالذخيرة.”

مالت بجسدِها قليلًا للأمامِ واستندَت بكفيّ يدها على حوافِ المِقعد مُعقِبة:

“لقد حنَّ فؤادي مرارًا، ولكني سلبته الحقُ في حُكمِ الطريق إليكَ مُجددًا.”

كلماتها جَرت مجرى النزيفُ في جسدي.

“ألا نستحقُ غُفرانًا يا بينيلوبي؟”

ارتفع شدقها في بسمةٍ بسيطة وذوَّبت آمالي.

“لقد غفرتُ لكَ قبل أمدٍ يا هارون، لكنِّي لم أغفر لخيالك الذي بقى يتربصُ بِي كُلما صحوت. أنتَ داءٌ دعوتُ كثيرًا أن أُشفى مِنهُ، ولقد أنعمَ علي ربِي بالشفاءِ أخيرًا.”

شعرتُ بثقلِ عُلبة الحُلى الخفيفة في جيبِ سُترتِي، كأنها تسخرُ مِني على مُحاولةٍ واهية، إلا أنِّي قررتُ الاستمرار رغم عُتمة الأمل.

“مازال قلبِي مقروحًا بِحُبكِ. بينما كُنتِ تصلين لتُشفي مِني، كُنت أُصلي كي تعودِ إلي، أو أعودُ إليكِ.”

لَم تُعاتبني نظراتها التالية، ولكن عاتبني عقلِي، كذا جسدِي الذي فقد ثباته داخليًا. كُنت أنهار ويُغالبني الشوق إليها، إلا أنها كانت قاصية رغم أنها دانية. وكنتُ مُترامٍ في أراضٍ أعجمية بلا روحٍ أو قلب.

“سيُعقد قراني قريبًا يا هارون. سأودُ لو تأتِ.”

أتتني جُملتها هجاءً لا دعوة صريحة لحضورِ تأبيني وزفِّها لسعادةٍ أُخرى.

“وسأودُ أيضًا لو أن يملَّ قلبُك مِن أن يتمناني. لن آتِ بعد الآن.”

لقد كانت نهاية صريحة لعرضٍ راقِص أخر، بطلهُ هو أنا، وهي الحكمُ الذي أنزلَ أشد الانتقادات على أدائي، مُضيفًا أنني راقصٌ فاشِل، وأنِّي لن أبرح رُقعتِي أينما ذهبتُ.

“أنتِ على حق، أنا رجلٌ مِن بارود، لا يحقَ لِي التضرُع للالماس.”

زيفتُ آخر بسمة في رصيدِ تعابيري لليوم وأضفتُ أخيرًا، مُسدلًا السِتار على قصةٍ خِلتُ أن نهايتها لم تُكتَب بعد:

“هلا أصطحبُكِ لمنزلكِ؟ لقد تأخر الوقتُ بالفِعل.”

أغدقت عليّ بإيماءة بسيطة واستقامت لتسيرَ أمامي، لقد صرفتُ دهرًا أطالعها خِلسةً مِن قبل، وها أنا استنزف آخر أوقاته في رؤيتها تسيرُ بعيدًا، حقًا هذه المَرة، هي لن تعود. أيا سيدتي الدعجاء، ما رِمتُ مطرحَ قلبِي بين كفيكِ، إن روحِي مُتنائية عني مثلكِ تمامًا؛ فحتى وإن كُنتِ على مقربةً لا يلمحُ طرفِي طيفكِ ولا تستبيح حواسِي عطرُكِ، إني يا سيدتي، مُترامٍ.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: