تناظر المفاهيم في النقد المعرفي

تناظر المفاهيم في النقد المعرفي

“الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” لعزت القمحاوي

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد

من الملامح الثقافية لجيلنا قراءة الآباء للجرائد وقراءة الأمهات والأطفال للمجلات، تصنيف نوعي شكلي ارتضته الأسرة بسماحة تجيز بوعي حرية التنقل، “حواء” علامة أمومية حانية تجاور مجلاتنا الساذجة، وحين نتوجه نحن – أطفال الماضي شبه التام – إليها، فهذا يعني أننا نكاد نطوي صفحة الطفولة، في “حواء” كانت صفحة المطبخ مزيّنة بصور أطعمة تقدّم ملوّنة وساخنة وباردة، وبجوارها كلمتان سحريتان: الكلمة الأولى: “المقادير” تعني المكونات أو المحتوى، والكلمة الثانية: “الطريقة” تشير إلى إجراء التحضير – لعلهما يستحضران إلى ذهني الآن مصطلحي الكفاءة والأداء في اللسانيات التوليدية – كانت حواء تأخذنا من صفحة المطبخ إلى قصة العدد، الأعداد الممتازة تحمل عنوان “إني أعترف” تحفل بالقصص الرومانسية، “حواء” بوابتنا للمطبخ والقصة،  قبل أن أعرف كتاب الطبيخ لابن الداية يوسف بن إبراهيم، وأسمع عن “النيء والمطبوخ” في الأنثربولوجيا البنيوية لستروس، وأطالع سيرة إليزابث جيلبرت “طعام.. صلاة.. حب” وأكتب عن رواية “الغليان” للمكسيكية لاورا إسكيبيل التي أهدتني إياها مترجمتها الدكتورة نادية جمال الدين، فتشبعت بها ولم أقرأ – بعد – ترجمة صالح علماني للرواية نفسها مع جمال عنوانه “كالماء للشيكولاتة”.

ويصلني كتاب “الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” لعزت القمحاوي، فأظن أنه رواية، لأجده دراسة ثقافية تربط بين مفهومين للمطبخ: الأول إعداد غذاء الجسد وهو المعنى الحقيقي بالمفهوم البلاغي، والثاني استعاري وهو إنجاز الغذاء الروحي الذي يحيا به الإنسان صانع الحضارة، هذا التناظر بين المفهومين لا يقوم على مشابهة لفظية بين كلمتي صناعة وصياغة بل يحفر في المكونات الدلالية لكلا الحقلين. إن وجه الشبه يجمع سمات كثيرة مشتركة بينهما، وهناك كلمات أثرت رصيدها الدلالي من ذاك التشابه (النضج/ التذوّق/ الالتهام) وكلمة المطبخ التي اتسع مدلولها ليشمل عمليات ما وراء الصناعة، وفي الإبداع هو ما وراء المتخيّل metafiction بإيجاز استعاري مناسب.

أخذ القمحاوي ذهن القارئ بصدمة العنوان الذي يجمع جملتين بالفصل دون عطف، كلتا الجملتين خبرية فيها مسند إليه ذات، ومسند جملة فعلها المضارع يتجه للموت، الطاهي يقتل مفرداته في طبق، والكاتب يجسّد حيوية متخيّله المتوهج في الكلمات، البنية الأفقية للعنوان تمعن في الإخبار، والبنية الرأسية تحفر في العلاقة الإسنادية، وتبحث عن المعنى العميق بين جملتين مثل طبقين يتجاوران على مائدة الفكر. إن ظاهرة تناظر المفاهيم الثقافية التي تتخذ نموذجها من ثنائية الطهو والكتابة تحتاج إلى تنقيب معرفي يمكن أن تحدده فرضية: كيف يصنع الإنسان حضارته؟ هذه الفرضية تولد منها مجموعة أسئلة: ما علاقة احتياجاتنا الغذائية باحتياجاتنا الفكرية؟ وهل تنمو الثقافة بالتماثل أم بالتجاور أم بالتفاعل؟ وكيف تعمل القوة الناعمة soft power على تنمية ثقافة الحياة؟ هذه المنطقة يجوب عزت القمحاوي مسالكها في كتابه “الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” الذي يعد نصًا نقديًا يفيد من دائرة مرجعية بينية مازجة بين المقولات الأنثربولوجية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والنقدية والبلاغية واللسانية معًا في سعي  جمالي لإدراك العلاقة الحيوية بين المادي والمعنوي، ورد السلوك البشري لمنزله الأول الذي عاش فيه أجواء عجين خبز الأم الدرويشي الذي لا يغادر أثيرنا الروحي.

عزت القمحاوي

يساعد التفكير في تناظر المفاهيم على استخلاص المكونات لأقصى درجة بالاستقراء والاستنباط والموازنة، وفي الوقت نفسه يبني الكاتب سردية حضارية عن العلاقة بين المفاهيم المؤسسة للثقافة، وتتضح في تلك الكتابة التحليلية طريقة عمل العقل الجمعي الذي يصوغ الهوية في سياق حيوي ويحافظ عليها بالغذاء والسرد معًا، ومن المواضيع المهمة في الكتاب الربط بين الطعام والهوية الاجتماعية وما يستتبع ذلك من النظر إلى الآداب في ضوء المحلية والعالمية، والحديث عن اللغة الروائية التي تتميّز بالتنوع الداخلي، وتتطلب نضجًا في الصياغة يمارسه الكاتب بصبر، وتنال لغة نجيب محفوظ مساحة مهمة في التحليل الذي يستخلص المعمار الأسلوبي لمحفوظ  من الواقعية إلى الملحمية، والتمثيل الأسلوبي للشخصيات، وتمكّن محفوظ من الشعرية التعبيرية التي تحقق الإيجاز في البنية السطحية والثراء في البنية العميقة.

ويعالج عزت القمحاوي قضية التأثير والتأثر بين الأعمال الأدبية منطلقًا من العلاقة الجدلية بين محدودية التيمات وخصوصية التجربة الإبداعية، فتتخذ المعالجة نسق ثنائية المقادير والطريقة وهي تناقش إحدى القضايا المهمة في النقد الأدبي، إن المقادير هي عناصر الأبجدية الفنية، هي المواضيع التي تنشأ منها الدراما، أمّا الطريقة فهي الأسلوب الخاص الذي يتعامل به المبدع مع الأبجدية المتاحة أمامه لإنجاز عمله على نحو يحمل رؤيته مهما التقى مع أعمال أخرى تعالج الموضوع نفسه.

يربط عزت القمحاوي في كتابه “الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” الشعر بذكورية الثقافة الاجتماعية والسرد بالثقافة النسوية، إن الشعر هو الصوت المصاحب للمعارك، فمضاربه هي الحروب التي تفتخر فيها القبيلة بانتصاراتها، وتهجو أعداءها، بينما تنبع القصص من البيت، من حضن الأم ومطبخها والتجمع اليومي الذي يصوغ مفهوم الأسرة أو الهوية الاجتماعية للأمم التي تتشكل شخصيتها من حكايات تتوارثها الأطفال عن الأمهات والجدات. والطريف أن العقاد اتخذ من الطعام استعارة للشعر الذي يماثل التفاح، بينما القصة تماثل الجميز في المعجم العقادي كما جاء في مقاله المثير للجدل في العدد 635 من مجلة الرسالة، ويرى العقاد أن مبدع الشعر يتذوق القصة، ومبدع القصة يتذوق الشعر “لكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك إن البقول طعام الأغنياء، وإن اللحوم طعام الفقراء.” تلك الفقرة كتبها العقاد في مقال “الشعر والقصة” يوم الاثنين 26 رمضان 1364هـ / 3 سبتمبر 1945م مشبّهًا الشعر باللحوم والقصة بالبقول في قائمة الطعام، ولنجيب محفوظ رأي مغاير بالطبع في العدد نفسه من الرسالة.

يحدد تحليل تناظر المفاهيم العمليات التي يتطلبها إعداد المنجز التداولي في كلا المجالين فيبدو التشابه بينهما بما يوضح أن العقل البشري يعمل وفقًا لمنهج واحد في بعض الأنشطة الثقافية، إن إعداد الطعام يحتاج إلى وضع القائمة والاختيار والتقطيع والمزج بعمليات تحويلية بين الصلابة والسيولة والبرودة والسخونة، ونضج يتطلب الصبر والانتظار والمران، ثم يصل الأمر إلى العناية بجماليات التقديم التي تضع المنتج في صورة حسية بديعة، ومن الممكن البحث عن مجموعة من العمليات المماثلة في إعداد العمل الإبداعي، وعن طريق التبديل الرياضي يستطيع الطاهي عمل أصناف مختلفة من مقادير قليلة، كذلك الأديب من عناصر محدودة ينجز أعمالًا متنوعة، وإذا تناول أديبان الموضوع نفسه تختلف المعالجة مما يؤدي إلى اختلاف التجربة الجمالية في التلقي الذي يعتمد على مخاطبة المبدع لملكة التذوق لدى القارئ، وينتج عن هذا التشابه بين المفهومين ظاهرة مشتركة هي العلاقة بين قيمة المحتوى وطريقة تقديمه، فمثلما يحدث في الطعام يمكن أن تفرض بعض الأنواع الغذائية نفسها في سياق تغريه الجماليات البارزة اليسيرة فتنجح أعمال محدودة القيمة، وبالمثل فإن بعض الأعمال الإبداعية قد تحمل أفكارًا مهمة لكنها تفتقد طريقة التقديم المناسبة لذوق التلقي، هذه القضية يعالجها عزت القمحاوي بإجراء التحليل التناظري لكلا المفهومين.

يعالج عزت القمحاوي قضايا الإبداع من داخل المطبخ الأدبي، إنه يعرف سر الصنعة، ويستطيع أن يحلل مكونات الأعمال الأدبية بالموازنات والمقارنات عبر الثقافات على اختلاف اللغات والفضاءات والعصور، وهو يفعل ذلك داخل إطار كبير يتجاوز الأدب بمفهوم فنون القول بخاصة الرواية فينتقل من الأدب إلى الأدبية التي تعني جماليات الإنتاج والتلقي التي تحقق التماسك والانسجام والتآلف لتلك المائدة التي نتذوق محتوياتها باللسان والعين واللمس والرائحة، رائحة الأوراق المقطوعة من أشجار مانحة للطعام والأفكار والمودة، إن الأشجار عنصر مهم في إقامة حلقات وصل بين مفهومي الطهو والكتابة، أو مائدة الغذاء التي تجمع البشرية بين الأرض والسماء.

إن كتاب “الطاهي يقتل.. الكاتب ينتحر” لعزت القمحاوي لا يكتفي بتحليل مكونات العملية الإبداعية بقراءة موازنة تضع مرجعية إعداد الطعام بوصفها بنية عميقة لإنتاج منجز صناعي يحقق الإشباع الغذائي إنما يمارس المؤلف دور الطاهي الذي يأخذ المتلقي إلى مطبخ القراءة، يفتح أمامه الأطباق الروائية، ويطلعه على دقائق الصنعة، ويرد العناصر الممتزجة إلى أصولها في سوق الإبداع السردي التاريخي، في هذا المقام تشغل “ألف ليلة وليلة” مساحة مهمة في القراءة النقدية للقمحاوي، إن الليالي العربية تقوم بدور الأم التي أسست البيت الكبير، ومن هذا البيت الأول يستقي الطهاة أطباقهم يقدر ما تسمح مائدتهم الروائية عبر الثقافات.

قدّم عزت القمحاوي دراسات نقدية مقارنة بين أعمال سردية مهمة مثل “بيت الجميلات النائمات” لكواباتا و”ذاكرة غانياتي الحزينات” لماركيز و”اسم الوردة” لإيكو، وفتح المجال لمقارنات بين نجيب محفوظ وديستوفسكي، وحاول استكمال مشروع كالفينو في تحليل مفهوم الانسجام الفني متخذًا من رواية “بارتلبي النساخ” لهنري ملفل نموذجًا للتوافق بين الشخصية والمهنة، فالكتاب بحث فيما وراء الكتابة، يمضي في الاختيار والتحليل والمقارنة من منطلق العلاقة بين الطاهي والكاتب، تلك الثنائية التي تثري حقل السرد الشارح، وتضفي على المعالجات النقدية طابعًا ثقافيًا تقاوم به النزعة المدرسية التي أصبحت لازمة في حقل النقد الأدبي منذ نقل البنيوية إلى مرجعية المنهجية النقدية العربية، ومن شعرية التأليف أن تكون قصة “الألف” لبورخيس نهاية المطاف، وسعادة لنا – نحن الألسنيين – أن نسخة قراءة القمحاوي لهذه القصة بترجمة  الصديق النبيل محمد أبو العطا الذي افتقدناه.

كتاب عزت القمحاوي وجبة معرفية أعدها الطاهي المحترف الذي تمنحه خبراته بالمطبخ الروائي قدرة على استخلاص المعاني الدقيقة من النصوص الجميلة، وهذا الاستخلاص نوع من القتل المجازي الذي يقوم به المبدعون النقاد بعد أن عانوا الانتحار – المجازي بالطبع – حين صبوا خلاصة تجاربهم في سردياتهم الإبداعية، فهكذا نفهم العبارة التداولية التي تشيع كثيرًا “موت المؤلف” فمعناها الأول المباشر هو فصل المبدع عن عمله، فقد انتهى دوره بمجرد الانتهاء من صناعته، لكن المعنى الثاني هو أن المؤلف ترك نفسه في العمل، إننا ندرك المؤلف من صورته النصية، المؤلف تدفق في نهر الصفحات، روحه بين السطور والكلمات. إن النقد المعرفي يتعامل مع طرائق الإدراك التي تؤسس نسقًا إجرائيًا يمكن تحديد بنائه وصولًا لكيفية حدوث التطور الذهني للبشر في صناعة الحضارة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: