تابع سلسلة الجريمة كما يصورها القرآن ( 3 )

تابع سلسلة الجريمة كما يصورها القرآن ( 3 )

تحقيق ودراسة وتقديم

 باسم أحمد عبد الحميد

 

-في غياب العزيز زوج زليخة،

عقدت الزوجة العزم على حسم الموقف بأي شكل ضاربة عرض الحائط بكل الاعتبارات التي حالت بينها وبين اتخاذ هذه الخطوة في وقت مبكر، بدلاً من أن تظل لأوهامها ومشاعرها الحسية، التي لم تعد تتحملها، ولما دخل يوسف إلى البيت، لاحظ أنها في أكمل زينتها كما لو كانت ذاهبة إلى حفل كبير وقد ارتدت ثوباً رقيقاً للغاية، شفت عما تحته – الأمر الذي جعله يدير وجهه في خجل وانتابته حيرة شديدة يتساءل فيما بينه وبين نفسه عما استدعته السيدة من أجله أما هي فقد أخذت ترمقه في اهتمام وترقب وكأنها تنتظر أن يقول شيئاً بشأن ثيابها أو زينتها، فتلتقط منه الخيط وتمضي بالحديث مبحرة في المناطق الوعرة، ولكنه لزم الصمت وهو يتجنب النظر إليها وهي على هذه الحالة الواضحة في دلالتها مما تريده مما جعلها ترمقه في دهشة وهي تتساءل فيما بينها وبين نفسها من أي مادة خلق هذا الرجل؟!!

-هل هو إنسان حقاً أم مخلوق من عالم آخر، ليس له قلب يخفق للجمال، ويتفاعل مع الفتنة، ومع ذلك فقد غالبت ضيقها مستخدمة كل ما تعرفه من أساليب الغواية وفنون الإغراء والإثارة، فابتسمت له في مودة، وكأن إهماله لها لم يضايقها، وتحركت من مكانها ولكن دون أن تقترب منه وبدات تراوده (وراودته التي هو في بيتها) سوره يوسف 32

 

—هيت لك!!!

وبينما كانت المرأة المتوترة تغلق الأبواب أخذت تفكر فيما يجب عليها عمله بعد أن نفذت كل سهامها، فيما عدا السهم الأخير وتأكدت من عدم جدوى المراودة فالفتى لم يبد تجاوباً بحيث يقدم على فعل ما تريده هي وأن يفعله

هو  فتكون هي المطلوبة لا الطالبة وبعد أن انتهت من غلق الباب الأخير دارت دوره واسعة وهي تلهث من شدة الانفعال تضحك في مرح عصبي وما ان اقتربت منه حتى اندفعت إليه ليفاجئ بها تحيط عنقه بذراعيها وتلصق صدرها بصدره وهي تهتف به في خفوت وانفاسها تلف وجه( هيت لك) أي هلم أقبل وبادر!!

-ومعناها الصريح هيا ضاجعني ولكن القرآن الكريم فضل استخدام كلمة( هيت) لكي يكون التعبير نزيهاً راقياً وإن كان لا يتشرط أن تكون هي نفسها التي استخدمت نفس العبارة ويفاجئ بها يوسف تعانقه وهي تهمس في وجهه بهذه الكلمة أو ما في معناها فانتابته حيرة لم يدري ماذا يفعل ولكنه سرعان ما تمالك نفسه أمام هذا الموقف الذي لم يسبق له ان واجهه في حياته، فأمسك بساعديها اللتين مدتهما فوق كتفيه يدفع صدرها عنه وهو يشيح بوجه قائلاً :

معاذ الله أي أعوذ بالله وأتحصن به، ويضيف وهو يستجمع قواه ليستمر في إبعادها عنه

( أن ربي أحسن مثواي)

-يقصد في رأي جمهور المفسرين زوجها العزيز الذي اشتراه وجاء به الى بيته وأحسن معاملته واوصاها بان تكرم مثواه بل وتمنى لو اتخذاه ولداً…

– وإن كان بعض المفسرين رأى إنما قصده بكلمة ربي الله سبحانه وتعالى الذي أحسن مثواه وليس ما يمنع من اجتماع المعنيين حيث أن العزيز لم يفعل ما فعله إلا لأن الله تعالى أراد ذلك، رعايةً ليوسف وتعويضاً له عما لقيه من إخوته ومن الأعراب الذين عثروا عليه في الجب ثم عرضوه للبيع كعبد وبالتالي فانه لن يجزى الزوج على إحسانه بالشر فيخونه في أهله، وفي زوجته إنه لا يفلح الظالمون!!

( همت به وهم بها)

 

– العلماء لم يختلفوا بشأن امرأة العزيز وهو أنها بالفعل همت به، وذلك بأن وضعت نفسها بحيث تكون في متناول يوسف جسدياً فيضاجعها إن شاء ولكنهم اختلفوا بشأن( هم بها)!!

ونحن نرى، أن يوسف منزه لأنه نبي معصوم، وتفسير( همَّ) بأنه كان مجرد حديث نفس لم يتجاوز إلى الفعل أبداً..

والزمخشري قدم صورة مهذبة وتتفق مع السير العادي والتطور الطبيعي لمثل هذه الواقعة، حيث فسر، ولقد( همت به) معناها ولقد همت بمخالطته و(هم بها) وهم بمخالطتها لولا أن رأى برهان ربه.. سوره يوسف 42

جواب لولا محذوف تقديرهم لولا  أن رأى برهان ربه.. لأن قوله معناه لولا أني خفت الله.. وما كان لنبي الله أن يكون ( هم… بالمعصية… والقصد إليه وكما تقتضيه صوره تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول، وهو يكسر ما به ويرده بالنظر الى برهان الله المأخوذه عن المكلفين من وجوب اجتناب المحارم  المسمى هما لشدته، والله  مدحه بالامتناع لان استظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم  الابتلاء وشدته ولو كان همه كهمها العزيمة لما مدحوا الله بأنه من عباده المخلصين.. – – – وأنا أرى  أنه لا يمكن لأحد مما ادعوا على يوسف  مثل الزمخشري وسيد قطب أن يحكما على تلك الملابسات والحيثيات والظروف التي عاش فيها يوسف في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة وقبل أن يؤتي الحكمة والعلم وبعدها، والذي خطر لي في قوله تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه هو نهاية موقف طويل من الإغراء بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم وهو تصوير واقعي صادق لحاله النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة ولكن السياق القرآني، لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة لان المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة ، في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة،  كذلك فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أولهم وصون الله له في نهايته مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ونتصور الظروف والى العصمة النبوية وما كان يوسف سوى بشر نعم انه بشر مختار ومن ذلك لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات فلما رأى أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه بعد لحظة طارئة عاد إلى الاعتصام والتابي كذلك( لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) سورة يوسف 42…

ولكن السؤال هل عصمة الأنبياء  تنفي عنهم طبيعتهم البشرية؟! وهل  إرادتهم القوية واحاطتهم بما لم يحط به الناس من صفات الله تعالى، التي اصطفاها لهم  من دون خلقه جميعاً، هي الفيصل في هذه القضية؟!

الله عز وجل أدبهم وعلمهم وأتاهم الحكمة، التي، تجعل نظرتهم الى الأمور تختلف عن نظرة غيرهم فبالنسبة للرسل، فانهم يرون عاقبة هذه الأمور  الشديدة، بوضوح وجلاء بحيث تتضاءل أمامهم اللذة السريعة التي يوفرها الزنا…

ثانيهما انهم بصفتهم انبياءاً ورسلاً يحملون على عاتقهم مسؤولية ثقيلة يدركون بجلاء كم الأضرار التي تصيبهم إذا هم اخلوا بها وعظم الأجر الذي ينالونه إن هم قاموا بها على وجهها الأكمل وهو أجر تتضاءل امامه أي متعة أو لذة يمكن أن يوفرها الزنا أو غيره وعليه فليس ما يمنع من أن يفاجئوا بموقف أو تصرف فيتأثرون به رغم ارتدادهم ولكنهم سرعان ما يتمالكون أنفسهم ويسيطرون على مشاعرهم ويميلون إلى العقل والمنطق فيتخلصون مما ألم بهم…

و تصور البعض للعصمة على أنها حالة من الاستعصاء على كل المؤثرات السيئة، ينفرد بها الأنبياء دون البشر جميعاً، تقيمهم الزمن والخطا بحيث تبدو اشبه بالقميص الواقي من الرصاص الذي يرتديه الحكام فإنه تصور يسيء إلى الأنبياء وليحسن إليهم لأنه يعني أنه لولا العصمة لكانوا قد وقعوا في مثل  هذه المواقف وتلك التصرفات مثل بقية الناس وبالتالي لا يكون لهم اي فضل في الابتعاد عن المعاصي وعدم مقارنة الآثام ولعل ذلك التصور المسرف في الخطايا في الخطأ بدا واضحاً فيما ادعاه كثيراً من العلماء.. فجبريل عليه السلام  أدرك يوسف، وحدثه، لينفذ الامر الإلهي، بالنظر تجاه الأبواب السبعة، والتي انفتحت بقدر الخالق القادر…

يبقى أن نقول:

–  يوسف جميلاً أو كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يختصه بشطر الحسن فجمع بذلك بين جمال الخلقه وجمال الأخلاق، ولو شاء الله تعالى لاكتفى بالنسبه له بهذا النوع الاخير من الجمال ولكنه اضاف اليه جمال الخلقه وما لم يفعله مع غيره من الأنبياء والمقصود بجمال الخلقه ليس الوجه فقط بل كل ما يتكون منه جسم الانسان بما في ذلك الإحساس، والشعور والراي السليم والإدراك الصحيح فضلاً عن الرجولة وإلا كان ملكاً كريماً كما قالت عنه النسوة ومثله ليس مكانه الأرض التي نعيش عليها وإنما مكانه في السماء مع الملائكة لقد كان بشراً لا يختلفوا عن البشر أمثالهم إلا في قوة الارادة وبغض النظر والتقدير الصائب للأمور والصلة بالله الذي اصطفاه فليس ما يمنع من أن يفكرا لحظياً في هذا الموقف، ويفعل ما يؤمر به، من المولى عز وجل متجاهلاً، امراة شغفها حبا وعاشت سنوات تتمناه وتحلم باليوم الذي تروي فيه غليلها منه  إلا أن دعته إليها هاتفه به وكل خرجه في جسدها تتوق اليه, لكنه أبى واستعصم…

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: