بعد معرض فرانكفورت الألمانية كتاب مشرط الجراح بمعرض القاهرة الدولي للكتاب

بعد معرض فرانكفورت الألمانية كتاب مشرط الجراح بمعرض القاهرة الدولي للكتاب

دور المثقف  في صالون الجراح الثقافي نموذجا

بقلم بهجت العبيدي

رغم كل ما تحمله النفس للماضي من حنين، ورغم كل ما تهيله الأيام على الماضي من هالات تجعل النظرة له فيها الوفير من الإجلال، والكثير من التعظيم، ذلك الذي يعني ان النفس تهفو دائما للماضي، باعتباره الأنموذج والمثل، فإنني

لم أومن يوما بأفضلية العصور القديمة على الحديثة أو المعاصرة، مع تقديري الفائق لكل ما نتج عن الماضي من فكر وعلم، ومع كل التبجيل الذي ربما أبالغ فيها مبالغة هائلة للعقول التي هيأت للحاضر ظهوره الراهن، وقدمت للإنسانية العلوم والفكر والثقافة التي هي، في تصورنا، بناء هرمي، لا يمكن أن يكون به قفزات مفسدة للبناء، أو لبنات مشوهة له.

أذكر دائما هؤلاء التنويريين في كل الثقافات بكل خير، فلولاهم لم يكن للعلم أن يتقدم ولم يكن للفكر أن يرقى،  ولم تكن للإنسانية أن تنهض، فهؤلاء التنويريون، مهما كان لهم من شطحات أو تجاوزات تتسق مع العقول الفذة، فالمفكر لا يكون مفكرا إلا إذا قدم رؤية خاصة للعالم، والأديب لا يكون أديبا ما لم يتمرد، والفيلسوف لا يكون كذلك إلا إذا غاص فيما وراء الأشياء، وهذا ما يجعل لهم ولمنتجهم الفكري القيمة الكبرى، مهما كان فيها من اختلاف، فلربما يختلف الكثيرون اختلافا كبيرا مع الفيلسوف الإنجليزي الكبير ديفيد هيوم الذي أنكر وجود الدين، في ذلك الوقت الذي يقدرون فيه فلسفته والتي كانت حسية تجريبية غير متعالية، أفادت العقل البشري إفادة بالغة، فلقد كانت كل غايتها إيقاظ العقل الإنجليزي ومن ثم الأوروبي ومن بعده الإنساني من سباته العميق، ذلك الذي يمكن أن نفهمه من كبير الفلاسفة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، صاحب أكبر ثورة معرفية، تلك التي تشبه الثورة الكوبرنيكسية، التي صححت المفاهيم العتيقة التي كانت تضع الأرض مركزا للعالم فجاء كوبرنيكس وأثبت أن الشمس هي مركز الكون، حيث أصبح العقل عند  إيمانويل كانط هو المركز الذي يدور حوله العالم، فذكر كانط أن هيوم هو من أيقظه من سباته الدوغمائي، لهذه الدرجة كان تأثير هذا الفيلسوف الحسي، ولعل الكلمة التي دونها في كتاب الموتى حينما أتت لحظة الفراق: صبرا أي شارون الطيب، فكل ما حاولته هو أن أفتح أعين الناس على بعض الخرافات، ليرد عليه الآخر قائلا: اركب الزورق من فورك، أتظن أني تاركك كل هذه مئات السنين، في إشارة إلى أن ما ينشده الفيلسوف الإنجليزي الكبير في أن يخلص العقل البشري من بعض الخرافات من خلال جهد وعمل وفكر يتجاوز الحاجة له من وقت إلى مئات السنين، وهو ما لا يمكن لإنسان مفرد أن يعيشه، في إشارة إلى تغلغل الخرافة في الناس من ناحية، وضرورة أن يواصل المفكرون والفلاسفة العمل على تخليص النفس الإنسانية من الخرافات باعتباره هدفا ينشده كل مفكر، ليبدأ الجديد منهم مما انتهى إليه سابقوه.

وإن كنت أذكر التنويرين بالخير كله، فلا يمكنني إلا أن أقف أمام رموز التنوير في مصر وعالمنا العربي والإسلامي واقفا بكل الخشوع في محراب الفيلسوف الإسلامي الكبير جمال الدين الأفغاني ومن بعده الإمام محمد عبده وشيخ التنويرين طه حسين المفكر والأديب، ونجيب محفوظ شيخ الروائيين العرب، فهؤلاء خاضوا عباب بحر متلاطم الأمواج وساروا ضد تيار كاسح، مخلخلين ومحلحلين العقل العربي من حالة هي إلى الموت أقرب منها من إلى السبات.

ويظل في منظوري للمثقف دور، فإذا افتقدنا اليوم هذه القامات التي ذكرناها آنفا، ولم نتحصل على شخصيات ومفكرين بهذا الحجم، فكيف يتسق هذا مع ما ذكرته في أول هذا المقال، من عدم إيماني بأفضلية العصور القديمة أو المنقضية، إن دور المثقف عندي هو الذي يضبط هذه المعادلة التي يظن القارئ أنها تميل لصالح القديم، فمن هذا الذي يعيش بيننا الآن يقارب الأفغاني؟ ومن ذلك الذي يكون نظيرا لمحمد عبده؟ ومن يضاهي طه حسين، ومن ينادِدْ نجيب محفوظ؟.

الإجابة تأتي واضحة في مثل ما يقوم به عالم طبيب نزهو به في محافل دولية، هو الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ الأورام بجامعة القاهرة، والذي شارك كتابه “الألم والأمل .. مشرط الجراح وضفائر الدم” مؤخرا في معرض الكتاب في فرانكفورت الألمانية، والذي سيكون متوفرا أيضا في معرض القاهرة الدولي للكتاب حيث سيتم تناوله في ندوة خاصة بالمعرض الثقافي الأهم في الشرق الأوسط وأحد أهم المعارض الثقافية في العالم، وعالمنا الجليل الأستاذ الدكتور جمال مصطفى سعيد مؤلف الكتاب هو نفسه صاحب الصالون الثقافي الأهم في مصر والعالم العربي “صالون الجراح الثقافي”.

إن صالون الجراح الثقافي يذكرنا أول ما يذكرنا بصالونين شهيرين لا يمكن لمصري أو عربي يزعم ارتباطا ولو بطرف بعيد بالثقافة إلا وكان قد تعرف عليهما، وهما صالون الأديبة الكبيرة مي زيادة وصالون عملاق الفكر والأدب عباس محمود العقاد.

إن لكل زمن قضاياه، ولكل عصر مشاغله، ولكل وقت أولوياته. ولقد لمست في صالون الجراح الثقافي انشغالا بقضايا زمنه، ومشاغل عصره، وأولويات وقته، فوجدناه يتناول قضايا الحياة المصرية ويتفاعل معها تفاعلا يزيل اللثام عن الغامض في مكوناتها، ويشرح أسباب انتشارها، ويقدر ما فيها من إيجابيات وما يعتريها من نواقص، حيث يضعها تحت مبضع الجراح ليشرّحها ويشْرَحها ويصف  كيفية علاجها، من خلاله “روشتة” ناجعة.

ولعل الدعوة الأخيرة التي وجهها صالون الجراح الثقافي في لقائه الأخير للعام المنقضي ٢٠٢٣ والذي حدد له يوم الخميس الواحد والعشرين من ديسمبر  في تمام الساعة الخامسة مساء بمكتبة مصر العامة على نيل الجيزة  والذي  جاء تحت عنوان: إضاءات ثقافية على المشروع الوطني المصري والذي استضاف فيه نخبة من مثقفي مصر كان في مقدمتهم الضيف شبه الدائم للصالون المفكر المصري الكبير الأستاذ الدكتور أحمد الجمال موسوعة العصر لهو دليل أوضح من الشمس في كبد السماء فيما نذهب إليه من أن هذا الصالون الثقافي الذي يقوم عليه عالم جليل نعتز بصداقته، يذهب عميقا في سبر الشخصية المصرية التي تتجلى أوضح ما تتجلى في أزمنة الأزمات.

إن ما يقدمه صالون الجراح الثقافي لهو مثال لما يمكن أن يضطلع به المثقف، ولهو أنموذج لتشابك النخبة مع واقعها: محللة ومفسرة ودارسة ومقترحة الحلول، ولهو بديل، أو بالأحرى، لهو استمرار لدور الأفذاذ من المثقفين، والقديرين من المفكرين في شكل مختلف وثوب جديد وصورة متميزة من صور الحوار الفكري والمعرفي والثقافة.

 

 

 

 

مهاتفة !

الأديب حمادة عبد الونيس

ظل يردد سيرته كأنها ورد قرآني ،يذكره عدد أنفاسه ،يجعله حديثه بين جلاسه  ،يعدد مآثره ويلهج بذكر محاسنه ولا يتوقف عن سرد مزاياه !

يأمل فيه ،يدخره  زادا  فى السنوات العجاف وسندا  يثبت به فؤاده عندما يخاف ،قرأ كثيرا لكنه فى كتاب الحياة لم يزل يقرأ فى المقدمة !

ينسج الأمانى العذاب  طوق نجاة  ،يحدث نفسه ،يذكر سيرته ،يزهو ،يفتخر بما ليس عنده ولا تحت يده ،طفلا يرى المستحيل ممكنا فأبوه أغنى من الرئيس وأقوى من الحانوتى !

كم رسم رسومات فى الهواء وبنى بيوتا  على الماء لا يزدجر ولا يرعوى  !

حريص  على مجالسته ومؤانسته واكتحال  أهدابه برؤياه  !

قضى العمر  واهما ،لا يسمع من أحد نصيحة ولا يقبل رأيا غير رأيه ورأيه -لو أبصر- فطير  خداج ،تائه فى غياهب هواجسه سارح فى خضم أفكاره ،يوم العيد كل الناس يلبسون جديدا ويأخذون نقودا ويذهبون إلى الملاهى  يلعبون ويفرحون وهو قابع  فى حجرته  القديمة منطو  على نفسه لا أحد يفكر فيه ،تمتد إليه يد حانية عضها  الفقر بجنيه قديم مرسوم عليه سنبلتان ومسجد كبير له مأذنة عالية لكن نصف المأذنة  مقطوع !يخرج  على استحياء ،يمشى  فى سوق العيد يشعر بغربة  قاتلة لا أحد يعرفه ،يتلفت  يمنة ويسرة ،يرى صاحبه الذى أحبه يقود سيارته المرسيدس ،يسرع  خلفه ،يناديه بصوت مرتفع ،تسرع السيارة تختفى  عن الأنظار ،يرمقه  المارة  بنظرات متباينة ،بعضها إشفاق  عليه وبعضها حنقا عليه وسخرية منه لا يملك إلا أن يتولى والدموع تلجمه  وله  نشيج ونحيب يحيلان الرياض الخضراءوالمروج الغناء أرضا يبابا صفراء !يستأهل  كل هذا وزيادة !لم يستمع يوما لنصيحة أمه، كثيرا ما أخبرته وهى تغسل له رجليه فى طست النحاس :”ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك”. لكنه كان عنيدا  يأمل فى كل من ابتسم  فى وجهه ،يظن أن الدنيا مازالت بخير !لا يعلم المسكين أن القلوب ران  عليها ما اكتسبت من الإثم وأن النفوس أضحت شحيحة  تماطل فى حقوق الله !

كم قصت  عليه من أخبار ما قد سلف تبصرة وذكرى حتى لا ينشأ  عويلا متواكلا عالة  على الناس !

قلب الأم طاهر نقى ،قد تحزن الأم من سوء عمل ولدها لكنها لا تكرهه أبدا ،حدثته ذات ليلة أن سمعان ابن خيبان  ضحك عليه شيخ الخفر مدبولى أبو القمصان  ووعده أن يزوجه  ابنته فضة ويعينه خفيرا  نظاميا  فى دوار جناب  العمدة شريطة  أن يعمل لديه خمسة أعوام كاملة يكون فيها حسن السير والسلوك مطيعا للأوامر ،يزرع الأرض ويرعى البهائم نهارا وفى الليل يمشى فى ذيله خلف الحمار يبعد عنه الكلاب   ويحمل هدايا المزارعين إلى بيته !

سال  لعاب  صاحبنا ولم يمهل  أمه  حتى تنهى القصة !

وهل زوجه فضة يا أمى  ،لا يا ولدي فضة تزوجها أحمد ابن شيخ البلد!

وماذا  فعل  سمعان أسرع إلى الجرن  الكبير وأخذ يهيل  السباخ  على رأسه ويعلى صوته :هل كان هذا وعدك  لى  يا شيخ الخفر ؟!

يبلغ  العمدة عنه المركز متهما  إياه بالجنون فتم  القبض عليه وتحويله إلى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية !

أمى  ،لماذا تبكين ؟!أبكى  خوفا عليك يا ولدى ،فأنت من الدنيا نصيبى  ،أخشى عليك ؛فالدنيا غابة والناس وحوش ضوار  لا يعيش بينهم آمنا إلا  القوى وويل  ثم ويل  لكل ضعيف يسب فى اليوم مائة مرة ويهان  وتأخذ لقمته من فمه لا يحرك  ساكنا ولا يبدى  اعتراضا !

فى منتصف الليل يقوم مفزوعا من نوعه ،الآن عرفت قيمتك يا أمى ،أعدك  أنى  سأكون  رجلا  ،لن يستغلنى  أحد ولن  أكون تابعا لأحد بعد اليوم ،يرن  هاتفه يرد ،صاحبه يريده  على وجه السرعة للقيام بمهمة ضرورية ،حالا  سأكون عندك ،يبصق على الأرض غاضبا ،يغلق الهاتف ،يتأخر على صاحبه ،يطلبه صاحبه يحاول الوصول إليه لكن الرسالة فى كل مرة كانت مسجلة ،الهاتف الذى طلبته ليس موجودا بالخدمة .

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: