المثقف بين الواقع والبدائل

المثقف بين الواقع والبدائل

ناقد الجيل محمد دحروج

 

تاريخ الأدب الحديث مليء بالمجازر كما أنه مليء بالبحث عن البدائل

والخروج من دوائر الحصار ، كنت منذ أشهر أُعِـدُّ لبحثٍ عـن ظاهرة القمع السياسيّ ومشاهير الأدباء ، أُريد به أن أُبيّن أن الأدب الحديث فى مصر ارتبط بظاهرة استبداد الأنظمة الحاكمة المتعاقبة واستخدام أسلوب البطش مع كبار الأدباء إذا ما خرج أحدهم عن النص ـ  كما يقال  ـ ؛ العقاد وقصة اعتقاله إبـّان الحكم الملكيّ ، محمد مندور والموت بين جدران المعتقل ، محمود شاكر وقصة لويس عوض والاعتقال الناصريّ ، وسيّد قطب ومسألته التي صارت حديث السّاعة فى هـذه السنوات الأخيرة .

ودعـك الآن مـن بحثي هـذا ، ولنقـف قليلاً أمام الواقع وما يفـرضه من

أحداث عكسيّة على الأدباء وصُنـَّاع الفكر .

الأديب الناقـد الأستاذ علي شلـش [ 1935 ـ 1993 ] ، هـو أحد أهـمّ

أساتذة الأدب فى العهد الماضي ـ أي من 1980 وحتى عام 2000 ـ ، وهـو رجل لم ينصفه التاريخ كما لم ينصف الكثيرين من أصحاب الوعي والعمل الجادّ؛ والأستاذ علي شلش لمن لا يعرفه؛ هو رجلٌ عصاميٌّ بما تحمله هـذه الكلمة من معان، جاوزت مؤلفاته المطبوعة أربعين عملاً، منها: ( ثمن الحريّة ) ـ رواية تاريخيّة ـ ( عزف منفرد ) ـ رواية اجتماعيّة ـ، ( عزيزتي الحقيقة ) ـ مجموعة قصصيّة ـ، ( قضايا ومسائل فى الأدب والفـن ) ـ وهو مقالات نقديّة ـ ، ( عندما يتحدث الأدباء ) ـ وهو مقابلات وأحاديث  ـ ، ( فى عالم القصة ) و ( فى عالم الشعر ) ـ وهما من دراساته النقديّة ـ، ومن ذلك أيضًا ( من مقعد الناقـد )، ( اتجاهات الأدب ومعاركه )، ( نشأة النقـد الروائي فى الأدب العربي الحديث )، وله أيضًا ( الماسونيّة فى مصر )، ( اليهود فى مصر ) .

لـم يكن علي شلش سياسيًّا محترفًا أو ثوريًّا متفاعلاً، فقـد فرضت عليه

حياته أن يعيش وأن يدرس وأن ينفق على إخوته ، وقـد أجمع أهل عصره على أنه كان رجلاً نزيهًا، ينأى عن النفاق، كما أنه كان يبتعد عن الصدام وإثارة الجدل لميله إلى الهدوء وحُب الأدب إلى حدّ العشق والهوس والإدمان، وقـد كتب عدد كبير من مشاهير الكتـّاب عن هـذا الرجل فجميعهم ـ على اختلاف المنازع والمشارب ـ اتفق على أمر واحد، وهو أنّ علي شلش كان إنسانـًا إذا رأيته حسبته من سكّان المدينة الفاضلة التي تخيّلها إفلاطون .

قُل ما شئت عن هـذا الرجل ولكن لا تسألني لماذا تمّ اعتقاله لمدّة سنتين

وثلاثة أشهر فى مارس سنة 1967 ؟

لا تسألني هـذا السؤال، فإن التاريخ الناصري مليء بالأعاجيب، بل إن

أردت أن تعرف ما العجب، فهو حينما أخبرك أنّ التهمة كانت سياسيّة، بل واتهم بالتخابر مع دولة أجنبيّة ـ إحدى دول مجلس التعاون الخليجي ـ وما زالت قضيّة علي شلش مثار سخرية المثقفين ـ ولا تقل : دهشة ـ من الحكم الناصريّ الذي كان يعيش بطله فى غيبوبة لا تعرف إفاقةً، فكالعادة أرادت أجهزة الأمن أن تؤكّد لعبد الناصر أن نظريّة المؤامرة لـم تنته بعد !

وقـد عُـذِّبَ علي شلش بالمعتقل  ونال نصيبه المفـروض مـن طرائق القمع

والإذلال التي كانت معروفة يومئذٍ .

يقـول صلاح عيسى ـ وقـد اُعتـُقل فى هـذه الأيـام ـ فى مقـال كـتبه عام

1993 بمجلة ( أدب ونقد ) ـ العدد 99 ـ :

( حين كان الزمن 1968 عدت إلى المعتقل لأجد نفسي فى أحضان علي

شلش الدافئة، ذهلت لأنني وجدته مبتسمًا وقانعًا وراضيًا وصبورًا، ثم ارتعبت لأنني وجدته مستقرًّا تمامًا كأنه خُلق لكى يرضى بكل شيء ويتحمل كل شيء، حتى لو كان السجن بلا سبب، فالركن الذي يقيم به من العنبر نظيف ومرتب وكأنه مسكن كاتب محترف، يسهر ـ كما كان يفعل ـ إلى مطلع الفجر ليكتب ويقرأ . وكان علي شلش واحدًا من جيلنا الذي تفتح فى زمن كان يزدحم بتيارات الرفض، مع أنّ كثيرًا مما كان يجري آنذاك يعتبر ـ بالقياس إلى الكابوس الذي نعيش فى ظلّه ـ حلمًا ورديًّا ؛ ومع أنّ علي شلش كان قريبًا من كل التيّارات، إلا أنه ظل بعيدًا عنها جميعًا، فبدا لي ـ ربما لآخرين ـ محايدًا بلا قلب، ولعلي لم أكتشف ـ أو أحترم ـ نوعه من البشر إلا فى تلك السنوات التي عشناها معًا خلف جدران سجن واحد؛ فقـد كان يعارك ببسالة ظروفًا أسريّة بالغة التعاسة  ويعتبر ذلك واجبه الشخصيّ وواجبه العام، وفضلاً عن أنه لم يكن يعارك من أجل نفسه، بل من أجل أطفال زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، كانوا كل ما ورثه عن أبيه الذي تهاوى تحت مطارق هموم الحياة، فقـد كان ـ رغم حياده ـ حريصًا على ألاّ يلوّث يده أو قلمه، وأن يؤدّي واجبه كربّ أسرة، وككاتب، بمنطق الشرفاء الذين إذا حالت ظروفهم دون مقاومة الشر، فهم يملكون من نقاء الضمير ومن الشرف من رفض كلّ دعوة للمشاركة فيه . وكما يحدث فى روايات فرانز كافكا تمامًا، جاء اليوم الذي وجد فيه علي شلش ـ المثقف المحايد البعيد عن الصراعات الحريص فقط على شرفه الشخصيّ كإنسانٍ وككاتبٍ ـ نفسه وراء القضبان، دون أن يرتكب جريمة !

وغادر علي شلش السجن وبعد سنوات كان قـد غادر الوطن إلى أوروبا،

وبدأب فلاح مصريّ أكمل تعليمه الجامعيّ الذي كان قـد قطعه ليربّي إخوته، وحصل على الدكتوراه، وتدفقت كتاباته التي أكّدت لي أنه لم يعدل عن موقفه، وأنه ما يزال مخلصًا لاختياره، كواحد من هؤلاء المحايدين الشرفاء، الذين لا يرضون لأنفسهم أن يمارسوا الشر إذا لم يستطيعوا مقاومته . ) اه .

وبعـد ، إنّ سؤالاً يطرح نفسه، بل بفرض نفسه، مؤدّاه هو : متى يحق

للأديب أن يهاجر تاركًا أرضه ؟، هل يسوّغ الفقر ويصنع له سببًا للبحث عن فرصة أفضل فى بلاد أخرى عربية كانت أو أوروبيّة ؟، فإذا قُلتَ لي : لا، بل عليه أن يثبت نفسه فى بلاده أوّلاً، إن قُلتَ هـذا فكأنك لا ترى مدعاة لترك الوطن إلا فى حالات الاضطهاد السياسيّ أو سيطرة الأنظمة الديكتاتوريّة على مقاليد الحكم . لك أن تظن ذلك، وأن تتهم من يخالفك بالخيانة وغير ذلك مما يحلو لكل عاجزٍ أو مدعوم من نظام حاكم أو مؤيّد عن طريق الوراثة؛ غير أني أحسبُ أنّ الوعي الصحيح يفرض على المرء أن يبحث عن ذاته بأيّ مكان بهذه الدنيا ، فإنّ الوطنيّة لا تقاس بإقامة أو هجرة، بل إني لأنظر فى تجربة علي شلش فلا أجد لها نظيرًا عند الأدباء المصريين، فهذا رجل طحنه الفقر، ثم أُجبر على حمل أمانة عظيمة هي أسرة كبيرة العدد، ثم اعتـُقل، ثم هاجر إلى لندن، ثم أكمل تعليمه هناك، ثم صنع من نفسه أديبًا وناقدًا حقيقيًّا .

دعـك من كلّ هـذا، فليست قضية الفلاكة هي مسألتي هنا، وليس أمـر

الهجرة من الوطن هو سرّ هـذا المقال .

إنّ الناظـر فى حكاية هـذا الناقـد الأديب التي ذكرناها هنا يستطيع أن

يخرج بمقولة تذهب إلى الحكم بأنّ الأنظمة القمعيّة دائمًا وأبدًا ما تحارب أهل الفكر . هـذا هو الناتج الذي يتجلّى من بعد تأمّل مقالتي هـذه، غير أني أريد أن أذهب أبعد من هذا قليلاً، لأقول : لـم تكن الأنظمة الاستبداديّة لتنزعج من أصحاب الفكر السياسيّ أو المواقف الثوريّة وحسب، لا، إنّ مجرّد إيمانها بأنك تحمل فكرًا، وأنك مُخلص لقضيّتك ولو كانت أدبيّة لم تمزج بغير الأدب، إنّ مجرّد إيمانها بهذا يدفعها إلى وضعك فى قائمة الأعداء، وإن لم تكن عدوّ الوقت الآنيّ، لهذا اعتقلوا أمثال علي شلش ممن لا يشاركون فى العمل الثوريّ أو السياسي، فهو إن صمت اليوم فإنه قـد يتكلّم غدًا، وإنّ صدقه مع الأدب يُعدّ مشكلة من المشاكل التي تعكّر صفو الجلاّدين، فلماذا يُترك مثل هذا حتى تراه فى الغد وقـد حمل راية مؤثرة كتلك التي كان يحملها شيخ النقاد محمد مندور [ 1907 ـ 1964 ] ـ والذي تم اعتقاله فى العهد الناصريّ ومات بالمعتقل ـ فقاد نخبة من النُّخب الفكريّة فصنع طابورًا جديدًا فى صفوف المعارضة . نعم ؛ إن النظام الاستبداديّ يخشى من كل رجل صادق يحمّل همّ قضيّة من قضايا القلم، حتى وإن لم يكُن مُعارضًا، حتى وإن لم يكُن سياسيًّا .

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: