من حديث السيرة  ” صراحة ولا راحة “

الأستاذ الدكتور سعد مصلوح
 

كان أشدُّ ما يزعجني منه ويقلقني عليه صراحتُه الصادمة التي تُجابه ولا تلتفت ، وتصَرِّح ولا تُعَرِّض ، وتجهر بمعتقده من غير التواء ولاجمجمة. كان لا يتوقف لحظةَ عينٍ ليفتش عن لفظ مناسب يُمَوِّهُ به مُرادَه ، أو يَسَوِّقُ به فكرته. ولا يحسب حسابا لمَغّضَبة سامعه مهما علا مكانا ومكانة ، إذا رأى من نفسه أنه في مقام المُحِقّ. كان – والكلام على شيخي عبد الرحمن أيوب غفر الله لي وله ، وتلقاه بسابغ العفو والمرحمة – مُبْغِضًا للنفاق وأهل الرياء ؛ لا يكترث لهم أو يبالي بهم ؛ ومن ثم كان بغيضا إليهم ومناطا لألوان من الدسائس وسيّئ المكر . ولقد أيبس ذلك السلوك ما بينه وبين الكثير ، ومن بينهم شيخنا إبراهيم أنيس وصديقنا عبد الصبور شاهين رحمات الله عليهما ، وجلب له من المتاعب ما كان عنه في غنى لو أن لسانه عرف طريقه إلى تلمس مرضاة الناس بالحق وبالباطل. قال لي رحمه الله ذات مجلس ، معلقا على حدث كان ، ما ترجمته : من الناس من يمكنه أن يلبس جِلْبابا ناصع البياض ، ويخوض به الطريق الموحلة ، ويسير حذرا حريصا ، فتراه يخرج إلى اليبس كما دخل ، لا ينال الوحل من جلبابه شيئا ، . أما أنا – والكلام له رحمه الله – فطريقتي في السير واحدة لا تتغير بتغير الطريق ، ولست أتكلف لذلك أدنى تكلف بل أسير على سجيتي ، وقد ” أطرطش ” فأغرق بالوحول ثوبي وثياب من حولي .
ثم حكى لي حكاية عجبا ؛ قال :
إنه كان ذات سنة واقفا في غرفة (الكنترول ) يسلم أوراق الامتحان بعد تصحيحها ( حاشية معترضة : كان كنترول السنوات الأربع في مبنى الكلية القديم تضمه غرفة واحدة ) ، ورئيس الكنترول جالس إلى مكتبه ، وكان أخ لبعض الزملاء طالبا في إحدى الفرق ، وشوهد ذلك الزميل يحوم حول اللجنة يحاول أن يتَسقّطَ أخبار نتيجة أخيه، فإذا رئيس الكنترول ينهره على الملأ ، ويأمره بعدم الاقتراب لأن النتيجة تظل سِرًّا حتى تُعْتَمد. ” وكان أن سُقِطَ في يد الزميل ، واستشعر حرجاً بالغا بين الجالسين . لكن الدكتور أيوب شَاهِدَ هذه الواقعة تأذى لما حدث ، ولما نال الزميل من حرج نتيجة دعوى الصرامة والنزاهة على غير الحقيقة ، فتوجه إلى رئيس الكنترول قائلا على مسمع من جميع الحضور : يا أستاذ! هل اختلفت ذمتك في هذا العام عن ذمتك في السنين الخالية ؟ لقد كُنتَ في ما مضى تعطيني – متطوعا من غير أن أطلب منك – نتيجة أخي مادةً مادة. ( أو كما قال : هوه إنت كل سنة بذمة !! )
ران الصمت المطبق على المكان ، ولَك أن تطلق لخيالك العنان، وتتصور وقع هذا الكلمات على رئيس الكنترول وعلى الحاضرين وعلى الزميل الذي ناله زجر الرئيس.
تُري أكان ذلك مما يثقل به ميزان الشيخ أم مما يحسب عليه ؟ أيًّا ما كان الجواب فهكذا كان الرجل ، ولم تتغير حاله عن ذلك طول العهد به. حتى إني قلت له مازحا ذات موقف : لو أن نَبِيّا سار في قومه سيرتك وفَعَلَ فَعّلَتَك التي فَعَلْتَ ما اتبعه منهم أحد.
 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: