مائدة حوار د. منير لطفي صحبة الطبيب والكاتب د. ضيف سالم         

مائدة حوار د. منير لطفي صحبة الطبيب والكاتب د. ضيف سالم         

 

دكتور منير لطفي

 

* استفدْت من دراستي لعلوم الشريعة، وخاصةً الفقه وأصوله، الدِّقة والنظام وترتيب الأفكار

* يبقى الشعب اللبناني من أرقى الشعوب خُلقًا وأرهفهم حِسًّا

* هناك أخطاء للمرضى قاتلة، ولربما أضرّت بالمجتمعات عامةً

* آفة مجتمعاتنا العربية، التقليل من شأن المعرفة وتحصيل العلم النافع

* إذا أردتَ أن تغير سلوكًا، فعليك أوّلًا بتغيير المشاعر تجاه هذا السلوك

*  النساء المترجّلات أضرّ على الأمّة من صواريخ وراجمات الأعداء

لا أجد للمرْء حلْية أزين من ثلاثية الطب والدِّين والأدب؛ فالطبّ أشرف الصناعات، والأدب غذاء النفوس، والدِّين حياة الأرواح..وهكذا كان الطبيب الأديب الداعية ضيف سالم، الذي وُلد بالإسكندرية عام ١٩٧٨، وتخرّج في كلية الطب عام ٢٠٠٢، وتخصّص في طب الأمراض الباطنية عقب حصوله على درجة الماجستير عام ٢٠١٠ ثم دبلوم أمراض الكبد عام ٢٠١٦. ومنذ حداثة سنّه حرص على تحصيل العلم الشرعي الذي أهّله لاعتلاء منبر الخطابة في سنّ السادسة عشرة، ولم يزل يترقّى في مدارج هذا العلم حتى صقله بالدراسة في كلية الشريعة والتخرّج فيها عام ٢٠٠٩. أمّا في التأليف، فله بين رفوف المكتبة العربية ثلاثة كتب هي: (القوّة)، (حياتي)، ورواية (كَدَر الغابة) التي أعرب عن الدافع وراء تأليفها بقوله: سألني بعضُ الأحبةِ في يومٍ ذي صَفاءٍ ومودة: عَرِّفْ لنا الدنيا؟ فأمسكْتُ عن الجواب حينًا من الدهر؛ وقد أضمرتُ أَنْ أجعلَ الجوابَ في هذا الكتاب والرواية ذاتِ الفصولِ والأبواب؛ فكان كَدَرُ الغابة..

وعبر أثير الكوكب الأزرق، كان التعارف واللقاء، ومن ثمّ هذا الحوار المتدفّق كنهْر عذْب والصادق كفلق الصبح..

دكتور ضيف سالم

=ما حاجة الداعية إلى الدراية بالأدب شعرًا ونثرا؟

لقد قام الشِّعر في صدر الإسلام بدورٍ عظيمٍ في نصرة الدعوة الإسلامية؛ فوقف الشعراءُ المسلمون خلف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ينصرونه بأسنّتهم كما نصروه بألسنتهم، ومواقف حسّان بن ثابت وعبد الله بن أبي رواحة وكعب بن مالك -رضي الله عنهم- أشهر من أن تُذكر، وهكذا توالت مؤازرة الشّعر لدعوة الإسلام إلى يومنا هذا.

والشِّعر بما يحويه من عذوبة ورِقّة قادرٌ على إلهاب المشاعر، وتهييجها، وتوجيهها في الاتجاه الصحيح. والأدب بشعره ونثره مهم جدًا للداعية، يُثقّف به لسانه، ويُجوّد أسلوبَه ويُرهف حسَّه، ويُوقفه على أبواب من العبارات الرائقة، والأساليب الفائقة، والصور المعبّرة، والأمثال السائرة، والحِكَم الآسِرة، ويفتح له نافذة على الروائع والشوامخ، ويضع يده على مئات بل ألوف من الشواهد البليغة التي يستخدمها الداعية في محلّها فتقع من القلوب أحسن موقع وأبلغه..تَصوَّر لو أنّ الداعية وهو يتحدّث عن صلة الرحم وحقوق ذوي القربى ويستشهد بالآيات والأحاديث، أردف ذلك الكلام الطيّب بهذين البيتين على سبيل المثال:

قَوْمي هُمُ قتلوا أُمَيْـمَ أخي      فإذا رميتُ يُصِبْني سهمي

فلئن عفوتُ لأعفَونَّ جَلَلًا    ولئن رميتُ لأُوهننَّ عظْمي

أليس لهذين البيتين تأثير كبير وتحريك للنفوس؟

=ما الذي أضافتْه دراستُك الشرعيّة إلى ممارستك الطبّيّة؟

لله الحمد والمنّة، فدراستي الشرعية أكسبتْني الكثير والكثير، وأهم شيء أن أجعل الله دائمًا هدفي وغايتي، وأن أجتهد ما استطعت في استحضار النوايا الحسنة، وأن أنصح لكل إنسان جاءني طالبًا الاستشفاء. وكنت وما زلت بفضل الله أحاول جاهدًا أن أربط المريض بالله عز وجل. وكثيرًا ما كان يأتيني مريض أعلم من حالته أنه في أيامه الأخيرة، وبخاصة مرضى السرطان المرحلة الرابعة، ومعروف أن المريض إذا وصل إلى هذه المرحلة إنما هي أيام يقضيها، والمريض في هذا الوقت أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة فيها عطف ورقة، وكذلك تذكيره بالعبادات التي قصّر فيها بسبب مرضه، وأهمّها الصلاة.. فكنت أُذَكِّرُه، وأشرح له شيئًا من أحكام العبادات في ظل ظروف مرضه. ولعلّ المريض لا يستفيد من زيارته لطبيبه العالم بأحكام الشرع إلّا هذه النصيحة في مرضه الذي اشتدّ به، وكفى بها فائدة. وقد استفدت من دراستي لعلوم الشريعة، وخاصةً الفقه وأصوله، الدِّقة والنظام، وترتيب الأفكار؛ وهذا جُلُّ ما يحتاجه الطبيب.

3=يركّز الكثيرون على أخطاء الأطباء فيُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، برأيكم ما هي أخطاء المرضى؟

كل بني آدم عُرضة للخطأ والسهو والنسيان. والطبيب بشر يصيب ويخطئ، وخطأه له ميزان يُحكم به عليه وفْق قواعد وقوانين شرعية ونقابية. ولكن هناك أخطاء للمرضى قاتلة، ولربما أضرّت بالمجتمعات عامةً. أخطاء في حقّ نفسه، وحقّ طبيبه، وحقّ المحيطين به. لربما أخطأ المريض في حق نفسه بعدم اختيار الطبيب ذي الكفاءة والثقة. ويُخطئ في حق نفسه إذا لم يتّبع تعليمات طبيبه، ولم يواظب على الخُطة المرسومة له، وغير ذلك من الأخطاء. وخطأ المريض في حق الطبيب بدايةً من عدم متابعة نصائحه، إلى ما قد يصل إلى السبّ والشتم، وقصصُ الاعتداء على الأطباء في قلاعهم كثيرة ومنشورة، وإلى الله المشتكى. وقد تكون أخطاؤه في حق المحيطين به بدايةً من أسرته إلى مجتمعه، فالمريض الذي لا يتبع مثلًا الإجراءات الاحترازية، ويعمل على نشر العدوى بين أبناء المجتمع هذا مؤذٍ لمجتمعه جدًا، وقد رأينا ذلك واضحًا وجليًا في جائحة كورونا. فنسأل الله الهداية للجميع.

=ألا ترى أنكم قسوتم على الحياة حين وصفتموها بالغابة في روايتكم (كَدَر الغابة)؟

لم أَعُدّها قسوةً؛ بل توصيفٌ لحال أهلها، وإن كان الخير باقيًا في الناس. ولكن كما قال ﷺ: “لا يأتي على الناس زمان إلّا والذي بعده شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم”. وفي الحقيقة نحن نعيشُ زمانًا قاسيًا، يصدق عليه قول الطاهرة المطهَّرة -عائشة بنت الصديق-، وهي تصف الدنيا بعد وفاة النبي ﷺ وأبيها -رضي الله عنه-، مُستشهدةً بأبياتٍ للبيد بن ربيعة:

ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم     وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ

يَتَأَكَّلونَ مَغالَةً وَخِيانَة                       وَيُعابُ قائِلُهُم وَإِن لَم يَشغَبِ

فكيف لو عاشت هذه الأزمان التي لا يعلمها إلا الله؟!

وأما الكَدَرُ فهو ما يمارسُه الإنسانُ على أخيه الإنسان، ويعتدي على مخلوقاتٍ أُخرى غيرِ الإنسان، في صورةِ ظُلْمٍ أو جَهْلٍ أو أي نوعٍ كان، من أنواعِ التَّعَدِّي والإساءة، والأذى..ولكن يبقى لنا في الله أملٌ لا يخيب، ولن يغيب.

=لماذا اخترتم القالب الروائي لتصوير الدار الآخرة في كتابكم (حياتي)؟

رأيت أن ما كُتب في هذا الشأن كثير، ولكن أذهلني عزوف الناس عن القراءة، وذلك يرجع لعدّة عوامل على رأسها التقليل من شأن المعرفة وتحصيل العلم النافع، وهذه آفة مجتمعاتنا العربية. وعاملٌ آخر، هو صعوبة محتوى هذه الكتب التراثية، والتي تصلح بالمقام الأوّل أن تكون مراجع وأَثْباتًا لطلبة العلم والعلماء. أمّا القارئ البسيط، فيحتاج أسلوبًا سلسًا، مع قالب أدبي؛ والأدب بتصويراته البلاغية، ومجازاته الشيقة القوية يُشَجِّعُ على القراءة، ويشحذ الهمم، ويوقد الذهن. ولو تأمّلنا وصف القرآن الكريم لليوم الآخر لعلمنا أنه كان لا يعدو هذا المنهج. إذ يقول الله -تعالى- مُزَهِّدًا الناس في الحياة الدنيا، وإعطاء الدار الآخرة الاهتمام الأعظم: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”.    [سورة الحديد 20].

أليست البلاغة هنا حاضرة بكامل لامتها، وأدواتها.

وهكذا كان كتاب [حياتي] على هذا النهج؛ وهو تَوَجُّهٌ جديد، يَحْوِي ما تَقَرر في شَرِيعةِ الإسلام بأسلوبٍ أدبي، وحِسٍّ بلاغي. ويا ليت علماء الأمة وأدباءها يحذون هذا الحذو، ويقتفون الأثر؛ فأمّة اقرأ للأسف لا تقرأ إلا مَن رحم.والكثيرون لا يستفيدون من هذه الكنوز المدفونة في بطون تلك الأمهات.

=برأيكم، أين تكمن صعوبات وتحدّيات الكتابة كعمل إبداعي؟

الصعوبات وتحدّيات الكتابة حاصلة لكل كاتب، ولكن تختلف من كاتبٍ لآخر، وكذلك حجمها مختلف. منهم من تكمن الصعوبة والتحدّي أمامه في قلة الوقت وفراغ البال، ولعلّي من هؤلاء؛ فانشغالي بالطب رغم أنه أفاد كثيرًا، إلا أنّ قلة الوقت يبقى عائقًا. ومنهم مَن تكمن عنده الصعوبة في قلّة الكتب والمراجع العلمية. ومنهم من يمتلك الموهبة، ولكنه لم يصبر حتى تختمر أفكاره، ولم يقرأ كثيرًا؛ فهو يتعجّل الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها أصلًا، وهذا حال الكثيرين..فأقول لهؤلاء: لا تتعجّلوا، واصبروا، واعكفوا على القراءة الواعية المُتْقَنَة؛ فمن تعجل شيئًا قبل أوانه، عوقب بحرمانه.

وعزوف المجتمع العربي عن القراءة شكَّل تحدِّيًا جديدًا؛ فلماذا يُبدع الكاتب، ولمن يُبدع إذا كان الجمهور المُستهدَف لا يقرأ أصلًا؟! والقمع الفكري والثقافي الذي قد تفرضه بعض الحكومات العربية شكل معوِّقًا آخر للإبداع. والكتابة أضحت مرتبطة بفقر صاحبها؛ حتى صدق القول على الكُتّاب بأنهم مفاليس.

الكثير والكثير من المعوّقات التي تواجه الكاتب كي يُبدع، ولكن أنا كطبيب تعلّمت الحلول وكتابة الوصفات العلاجية؛ فلولا الإطالة لساهمْت بوضع روشتة علاجية للتغلّب على هذه التحديات، فما ينبغي أن نعرض المشاكل، ونخوِّف جيل الكتاب الصاعد؛ ثم نُغفل الحلول.

=ما أكثر ثلاث سلوكيات صحيّة كفيلة بحيازة قوّة البدن؟

من أهم السلوكيات: التثقيف الصحي؛ فإذا أردت أن تغير سلوكًا؛ عليك أوّلًا بتغيير المشاعر تجاه هذا السلوك.

وبالتثقيف الصحي الواعي يفهم الإنسان ما ينفعه وما يضرّه؛ فيتجنّبه. وفي هذا الإطار، أوصي الجميع بضبط الطعام والشراب وممارسة الرياضة والنوم المبكّر.

=بحِسّ الداعية الأمين على الأسرة المسلمة، ما أسباب ارتفاع مؤشّر نسب الطلاق في الآونة الأخيرة؟

الأسرة هي الأساس لقيام مجتمع قوي مُحصّن ضدّ كيد أعدائه. ولكن نأسف كثيرًا لوصول الأسرة المسلمة إلى هذا التردّي الشديد. وأرى أن السبب الرئيسي هو عدم فهم كلا الطرفين -من زوج وزوجة- إلى طبيعة دوره في إنجاح الأسرة. فالزوج لو تخلّى عن دوره وقوامته انهارت الأسرة؛ وللأسف الشديد قد تكون الزوجة هي الدافعة إلى ذلك؛ فلقد كثر في زماننا النساء المترجّلات؛ وهذه النوعية من النساء أضرّ على الأمة من صواريخ وراجمات أعدائها. وهنا أقول للأنثى: كوني أنثى، واتّق الله في أسرتك، وتأسِّي بالسابقات من نساء الزمن الجميل، فلم يكنَّ مترجّلات، ولا على الدرجات العلمية حائزات؛ ولكنهنّ كنّ للغيب حافظات، وللزوج طائعات. وهناك أسباب أخرى قد يكون الزوج فيها هو المسؤول، ولكنني أتحدث عن الواقع الملموس، والمحسوس.

9= =وسط التخلّف العلمي الذي تعيشه بلادنا، يعيب البعض على الأطباء الانشغال بالكتابة أو الدعوة أو ما شابه، ويودّون لو تفرّغ الطبيبُ إلى طبّه فأتقنه وجوّده، فما قولكم في ذلك الطرح؟

الكتابة هي في الأصل مكوّن أساسي من مكوّنات الكاتب؛ فليست مكتَسَبة بقدر ما هي فطرية وجِبِليّة؛ فالكاتب يولد ومعه الحِسُّ الإبداعي، ويُصقل بعد ذلك بالقراءة ومتابعة السيْر، فإن كان هذا شأن الكتابة فمن الضارّ كبح جماحها كأيّ هوايةٍ من الهوايات. ولا يوجد كاتب فيما نعلم تفرّغ للكتابة من أوّل وهلة؛ فمنهم من كان يعمل في مؤسسات الدولة كالعقّاد مثلًا والرافعي، ومنهم مَن كان يعمل في الجيش كالبارودي، وغيرهم كثير، ولم يُعاب على واحد من هؤلاء عمله مع ممارسة محبوبته الكتابة؛ فلماذا يُحجَر على الطبيب أن يكون طبيبًا ويمارس محبوبته دون تعارُض.

=كيف وجدتُم لبنان في زيارتكم القريبة القصيرة؟

لبنان فيها الدفءُ والراحةُ والحنان، وقد حباها ربي بوارفات الجِنان، وأتمثّل في عشقها بأبيات معروف الرصّافي:

أرى الحسْن في لبنان أينع غرسه         وقارَب حتى أمكن الكفّ لمْسه

وعندما ارتقيتُ مرتفعاتها تذكّرت قول خليل اليازجي:

قف فوق رابيةٍ من طور لبنان               وَقُل سَلامٌ على أَرضٍ وَسُكّانِ

أرضٌ إذا ما سَقاها الغيثُ كادَ بها             أن يَستَحيل إلى دُرٍّ وَمرجانِ

يا أهل لبنان ما لبنانكم جَبَل                            لكنهُ قمَّة العلياء وَالشانِ

ولكن عندما وقفْت على حال أهلها اقتصاديًا فاضت دموعي، وسالت على خديَّ مُحرِقة، واشتَدَّ نَوحي وَصارَ جَهرًا، وكانَ مِن قَبلُ في الخَفاء وصارَ دَمعي سُيولَ نارٍ وكانَ قَبلًا سُيولَ ماء.

ومن المؤكّد أنّ التردِّي في لبنان الحبيبة لم يقف عند هذا الحدّ؛ بل تعدّاه إلى تردّي الأوضاع الخُلقية والثقافية، وإن كان الشعب اللبناني يبقى من أرقى الشعوب خُلقًا وأرهفهم حِسًّا..فاللهم هيّئ لهم من أمورهم رخاءً وسعادةً ورَشدًا.

&&&

أُجري الحوار في أغسطس 2023

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: