غلاء الأسعار وضنك المعيشة.. مسؤولية من؟  

دكتور حجازي خليل أمين

هل هي مسؤولية الحكّام والحكومات؟ أم جشع التجّار؟ أم ذنوب الناس وبُعدهم عن رب العالمين؟
قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)
هل سألت نفسك سؤالًا: لماذا هذا الضنك وقلة العيش وانتشار الجريمة وعدم الرغبة في الحياة عند الكثير؟ وربما تعجب إذا قلت لك وحتى مع الأغنياء!
وهل تنحصر السعادة ورغد العيش في المال؟ وما علاقة ذلك بقول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه 124
ولماذا نرى من المُعرِضينَ عن الإيمانِ من يكون في أخصَبِ عيشةٍ؟!
كل هذه الأسئلة إجابتها واحدة وهي البُعد عن منهج الله رب العالمين، كما قال ابن القيم رحمه الله: أصلُ الضَّنكِ في اللُّغةِ: الضِّيقُ والشِّدَّةُ، فهذه المعيشةُ الضَّنكُ في مقابلةِ التَّوسيعِ على النَّفسِ والبَدَنِ بالشَّهَواتِ واللَّذَّاتِ والرَّاحةِ؛ فإنَّ النَّفسَ كُلَّما وَسَّعْتَ عليها ضَيَّقْتَ على القَلبِ، حتى تصيرَ معيشةً ضنكًا، وكلَّما ضَيَّقْتَ عليها وسَّعْتَ على القَلبِ حتى ينشَرِحَ وينفَسِحَ، فضَنكُ المعيشةِ في الدنيا بموجِبِ التقوى سَعَتُها في البرزخِ والآخرةِ، وسَعَةُ المعيشةِ في الدنيا بحُكمِ الهوى ضَنكُها في البَرزخِ والآخرةِ؛ فآثِرْ أحسَنَ المعيشتَينِ وأطيبَهما وأدوَمَهما، وأشْقِ البَدَنَ بنَعيمِ الرُّوحِ، ولا تُشْقِ الروحَ بنعيمِ البَدَنِ؛ فإنَّ نَعيمَ الرُّوحِ وشقاءَها أعظَمُ وأدوَمُ، ونعيمُ البَدَنِ وشَقاؤه أقصَرُ وأهوَنُ، واللهُ المستعانُ.(الفوائد ص 168/169)، وكذلك تضَمَّنَت هذه الآيةُ أنَّ مَن أعرَضَ عن الهُدى المُنَزَّلِ -وإنْ لم يُكَذِّبْ به- فإنَّه يكونُ يومَ القيامةِ في العذابِ المُهينِ، وأنَّ معيشتَه تكون ضَنْكًا في هذه الحياةِ وفي البَرزخِ والآخرةِ، وهي المضنوكةُ النَّكِدَةُ المحشوَّةُ بأنواعِ الهُمومِ والغُمومِ والأحزانِ، كما أنَّ الحياةَ الطيِّبةَ هي لِمَن آمنَ وعَمِلَ صالِحًا (الفتاوي لابن تيمية ج20 ص 107).
كذلك المعصيةُ تجلبُ كلَ همٍ وغم وضيق وحزن وحياةٍ نكدةٍ ومعيشةٍ ضنك !! ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا ﴾.
كمالُ الرضا في عدم الاعتراضِ على قضاءِ الله وقدره، وعدم حسد صاحب نعمة أو تمني زوالها عنه، وهذا كله من أدب القرآن الكريم للمُسلم، قال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) فليس كل ما تتمنى الحصول عليه خيرًا لك، ربما أبعده الله عنك رحمةً بك، فكن راضيًا بقسمة الله لك، ففيه الخير والبركة، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، ولا يغرنك من افتتن بدنياه (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى).
وعلاجُ كل ذلك ما جاء في آخر سورة طه بعد ذكر معيشة الضنك والتي هي بسبب البُعد عن الله ومنهجه سبحانه وتعالى والذي وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ به أهل بيته رضي الله عنهم جميعًا، وإن كان الكلام لعموم الأمة بالصلاة والاصطبار عليها فهي من أعظم مظان الرزق المبارك (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) فمن حافظ على الصلاة تكفل الله برزقه وضمن له العيش الهنيء والاستقرار.
وفي واقعنا اليوم، لا تزال الأمة الإسلامية مُقصرةً نحو الله عز وجل، وهي أسعد حالًا من غيرها من الأمم الموجودة نفسيًا، فرغم الظروف القاسية التي يحياها البعض من الفقر والخراب إلا أنه سعيد مع الله بعكس المُنعّم وتراه حزينًا، وإذا يئس من الحياة انتحر تاركًا وراءه كل ثروته، وهذا يكشف لنا مدى الضنك الذي يعيشه أهل المادة والغنى بدون الإسلام. وفي أمريكا وأوروبا واليابان رغم الاقتصاد العالي والحياة المُتقدمة علميًا وماديًا، إلا أن أهلها يعيشون ويُعاينون الضنك في حياتهم ومعيشتهم أكثر من المُسلمين، بسبب إعراضهم عن ذكر الله عز وجل والتقيد بأحكامه وشريعته.
وفي مُجتمعاتنا وبسبب الإعراض عن ذكر الله، نجد أن التعامل الربوي أصبح يُشكِّل خطرًا على الشعوب من شركات الربا التي تُيسِّر القروض بصورة كبيرة حتى تُوقِعَ المواطنَ في القروض ويعيش مهمومًا بسبب عدم قدرته على السداد، كذلك جشع التجار المقيت غير المسبوق عند أي ارتفاع للأسعار عالميًا، تجدهم يقومون برفع أسعار السلع أو يخبئونها في المخازن حتى تشح في الأسواق، ويبدأ هو بخبثه وجشعه بالتلاعب بالأسعار كيفما شاء، وتناسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) صحيح البخاري. وعن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال (حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ) صحيح مسلم.
فالتجارة مهنةٌ تقوم على المبادئ والقيم، والمبادئ النبيلة للتجار تُقاس عند وقوع الأزمات، فإن كان لهم موقف إيجابي عندما يعمّ الغلاء بتخفيف الأعباء عن المُستهلكين فهذا سوف ينعكس عليهم بالبركة والتوفيق.
كذلك المُشكلات العائلية التي تتحول إلى جريمة وانتشار المُخدِّرات وسلوكيات بعض الشباب في الطرقات والأسواق، هذا كله هو المعنى الحقيقي للضنك والبُعد عن ذكر الله والقيام بما أمر سبحانه وتعالى.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: