هير عباس العقرب

الروائي حسن العربي

ظلت برجيت تهاتف والدها في يوم ميلادها الرابع عشر محاولة أن تقتنص منه لحظة اهتمام، أما هو فقد انشغل بأحد الاجتماعات الهامة التي يديرها بإتقان شديد منذ سنوات؛ حتى أنساه إتقانه عمله إتقان أبوّته.

حاولت برجيت جاهدة، لكن الاجتماع كان شديد الأهمية فلم يأتها ردٌّ منه.

لم تفكر في الاتصال بوالدتها ليليانا لمعرفتها مسبقًا بانشغالها عند مصفف الشعر اللبناني المشهور الذي افتتح قريًبا محله وسط بانهوف اشتراس، أحد أغلى شوارع العالم بمدينة زيورخ بسويسرا، وقد انتقاه خصيصًا ليصفف شعور أغنى أغنياء سيدات أوروبا.

كما أنها تعلم جيدًا أن مقص جو الذهبي يلعب في هذه اللحظة في رأس أمها، فلا جدوى أصلاً في محاولة طلب الرقم.

جلست وحيدة كعادتها، ثم كتبت رسالة هاتفية إليهما تذكرهما بيوم ميلادها، وأنها اليوم ستبهرهما بمفاجأة لن ينسياها مدى الحياة!

انتهي هير عباس العقرب من انشغاله باجتماعاته، ونظر في الرسالة التي أدهشته؛ فعلاقته مع ابنته الوحيدة لا تتعدى صباح الخير، ومساء الخير وأريد وخذي، دون الدخول في أية تفاصيل.

تعجب من رسالتها، وقرر الذهاب في الموعد، وفي طريقه رن هاتفه مرة أخرى، فإذا بها ليليانا تسأله إن كانت وصلته رسالة غريبة من برجيت، فأجابها بنعم، وأنه قرر أن يذهب ليرى المفاجأة!

كل هذا حفز ليليانا للذهاب هي الأخرى لرؤية المفاجأة، بل طلبت من سائقها الخاص أن يسرع؛ فهي تريد أن تكون في عمارتهم وهي أول ما اقتني هير العقرب في بداية حياته كرجل أعمال، مبنى ذو أربعة عشر طابقًا، كائن في قلب زيورخ في رقم أربعة وعشرين بادنر اشتراس، تريد به أن يسرع إلى هناك قبل أن تبدأ الاحتفالية والمفاجأة التي أعدتها لهما.

وصلت السيارتان تحت العمارة و فتح السائقان كلاهما الباب لمخدومهما لينزلا في نفس اللحظة ويسمعا معًا دوي سقوط هائلًا من أعلى المبنى، والذي ارتطم بالأرض متفجرًا إلى أشلاء تركت وراءها الدماء والبقايا في كل مكان، وقبل أن ينتبها إلى ما يحدث، وفي خضم الصراخ وهلع الناس ، يهرولون يريدون فهم الحدث، وصلت رسالة إلى هاتفيهما.

هذه الأشلاء هي أنا ….سوربريز!!!

جرت يمينًا وشمالاً وهرولت ليليانا وفى كل اتجاه، وكأنها تريد أن تتحقق مما رأت عيناها، وهي غير واعية لحقيقة ماحدث، ثم بدأت تصيح ويعلو نحيبها، وتلوم نفسها كما لم تفعل طيلة حياتها وجمهور، الناس من حولها يحاولون جذبها بعيدًا عن الأشلاء!

دقائق معدودات وفقدت وعيها تمامًا، فقامت الإسعاف بنقلها إلى المستشفى.

وقف العقرب متسمرًا مكانه بلا حركة ولا نفس ولا صوت، لم يكن ليستطيع استيعاب ما حدث، وهو الذي بذل شبابه في جمع الأموال لإسعادها، وحتى لا تعيش ابنته فقرًا مدقعًا كما ذاقه في طفولته!

كلما حاول الملتفون حوله سحبه خارج نطاق المشهد المؤلم كان يرفض في صمت وينهاهم، حتى سائقه الخاص لم يستطع، وقف عباس العقرب حتى لملموا ما تبقى من ابنته، وجاء عمال البلدية ليغسلوا الشارع الذي توقف عن النبض لبضع ساعات.

مرت الأيام وخرجت هي من المستشفى، وارتمت في أحضان زجاجتها وغرقت في كأسها وغاصت حتى الثمالة.

وهو، بعيدًا عن الحياة، يجوب شوارع المدينة وحيدًا، حيث لم يكن لديه أصدقاء، فلم يزرع في رحلته إلا منافسين وغرماء وأعداء، خاصة المصريين والعرب من أبناء جلدته.

عرف الحاج إبراهيم ما أصاب العقرب، ولم يكن من الشامتين، فذهب يتحسس أحواله، وجلس يواسيه ويقص عليه من القصص ما قد يساعده، أما عباس العقرب فقد أدهشته أخلاق من عامله بالسيئة، فإذا به هو الذي يواسيه، وقد اختفى كل أصحاب الكأس، وفي فجر أحد الأيام مر الحاج إبراهيم عليه في موعد مسبق لصلاة الفجر فاتخذ عباس من أحد أركان المصلي مجلسًا فسجد والدموع تنهمر من مقلتيه، كما لم يحدث له من قبل.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: