يحي الغزال والنقد الاجتماعي في شعره
يحي الغزال والنقد الاجتماعي في شعره
الأستاذ الدكتور رجب إبراهيم أحمد
يقول الدكتور الداية في مقدمة تحقيقه لديوان يحيى بن الحكم الغزال:”وقد أكثر ابن حيان فيما نقله من أشعاره وأخباره من التنبيه إلى أن الغزال بوصفه شاعرا هجَّاءً أو مقذع الهجاء.وأورد نبذا من أهاجي الغزال في الخصي المتنفَّذ (أي المستطيل بنفوذه) نصر، وفي المغني الشهير زرياب.وأورد ابن حيان وغيره من أصحاب كتب التراجم قطعا من شعر الغزال في هجاء القاضي يخامر،وفي هجاء بعض العدول ممن غفل عنهم القاضي معاذ الشعباني إلى غير هؤلاء.( )
كانت هذه هي المظنة في الشاعر يحيى الغزال أنه هجاء أو مقذع الهجاء.ويبدو أن ما نقله المحقق عن ابن حيان فيه تعميم للحكم على الغزال بأنه هجَّاء،وهذا التعميم يرفضه المحقق نفسه،ويسوق أسبابه الوجيهة لبطلان هذا التعميم،فالهجاء عند الغزال ليس منهجا يهتدي به،وليس أداة ابتزاز يجني من ورائها مكاسب دنيوية،والشاهد على ذلك ما جاء من هجاء الخصي(نصر) المتنفذ،فقد كان شخصا مسرفا في استغلال سلطته،متسلطا بها على رقاب الناس،وقد كان هجاء الغزال له لفة ذكية جريئة كشفت عواره،وأظهرت سوءته،وقد تبين بعد ذلك صدق نظرة الغزال فيه،حيث مات مسموما بسم أعده لقتل الأمير عبد الرحمن،فأجبره الأمير على شربه،فشربه فمات.وأما هجاؤه المشهور في زرياب المغنِّي،فكان لما عُرف به زرياب من عُجب وتيهٍ وصلف.وما أظن الغزال في هجائه كان يعبِّر عن رأيه وحده،لاسيما وأنه لم يكن بين الرجلين شيء ذو حفيظة.
وفيما يخص هجاء الفقهاء والقضاة فيبرره محقق الديوان الدكتور الداية بقوله :”وأما الفقهاء فما تحس في حياته وأخباره أنها قضية خاصة بهم.ولكن الغزال كان ينقم سوء استعمال المنصب أو كان ينطق بلسان الناس،أو جمهرتهم.ونجد في هجومه على بعض القضاة أو الفقهاء أو العدول(الأسباب الموجبة) للهجوم،هجاء أو تعريضا أو تحذيرا.إلا إذا أخذنا بهذا التفسير استقام لنا أيضا أن نفهم،ونقدر موقفه من كل مستغل وجامع للمال(الحرام) وموقفه الزاهد في الدنيا..وبهذا فلا يمكن أن يكون الغزال هجَّاءً،بل كان هجاؤه في إطار النقد الاجتماعي الذي لم يستثن أحدا،ولم يكن أحد عنده فوق مستوى هذا النقد( ).ويمكن تسمية هذا الهجاء بالنقد الاجتماعي,وهو يحتاج إلى بحث منفرد لدراسة مظاهره في ديوان يحيى بن الحكم الغزال.ومما جاء في هجائه “يخامر”:
فَقُلتُ لَهُ كَلَّفَتني فَوقَ صَنعَتي
كَما قَلَّدوا فَصلَ القَضاءِ يُخامِرا
فَأَصبَحَ قَد حارَت بِهِ طُرقُ الهَوى
يُكابِدُ لُجِيّاً مِنَ البَحرِ زاخِرا
فَقُلتُ لَو اِستَعفَيتَ مِنها فَقالَ لي
سَأَفضَحُ ما قَد كانَ مِنكَ مُغايِرا
فَقُلتُ لَهُ رَأسَ الفُضوحِ إِقامَةً
عَلَينا كَذا مِن غَيرِ عِلمٍ مُكابِرا
وَخَبطُكَ في دينِ الإِلَهِ عَلى عَمىً
خِباطَةِ سِكرانِ تَكَلَّمَ سادِرا
فَلَن تَحمِلَ الصخر الذُبابُ وَلَن تَرى السْ
سلاحِفُ يُزجينَ السَفينَ المَواخِرا ( )
إن هذا لقاضٍ يعيش في خيال أشبه بالخبال،يلتحف بثياب الجهل في حكمه،فسور القرآن تخفى عليه ولا يعلمها، ليس حفظا لأياتها،بل أسماء سورها التي لا تخفى على الغبي والنبيه.
إن المحور الرئيس لهذه القصيدة يدور حول جهل القاضي، يرسمه الشاعر بطريقة السخرية والهجاء لا تخلو من المبالغة ، فليس من المعقول أن القاضي لا يعرف أبسط سور القرآن،ويعرفها غلامه،والرسالة التي أراد الشاعر إيصالها إلى جهتين في المجتمع ذات وجهين: أولهما الجهة السلطوية المتمثلة للدولة وتنبيه الحاكم إلى هذا القاضي الجاهل لأنه يمثل سلطة الدولة،إذ إن تعرضه للقضاة في عصره”دليل أكيد على رغبته في إصلاح شأن العامة،وأن مزحه الجدَّ بالفكاهة لا يضيره شيئا،بل إن ذلك يضفي على نقده الاجتماعي صبغة خاصة”( )
وانطلاقا من تأصيل مفهوم النقد الاجتماعي أو المجتمعي،الذي يهتم بإبراز عيوب في المجتمع ونقدها نقدا بناء من أجل إصلاحها والوصول إلى مجتمع سوي،والغزال أحد هؤلاء الذين وظَّفوا شعرهم لنقد عيوب مجتمعهم،يعالج شعره قضايا اجتماعية عامة مثل فقدان العدالة الاجتماعية بين الناس، كما عالج قضايا فردية خاصة ببعض الناس كالغرور والنميمة والبخل،ونقد العامة والخاصة كالقضاة،والفقهاء،والسلطان وغيرهم:
لَقَد سَمِعتُ عَجيباً
مِن آبِداتِ يُخامِر
قَرا عَلَيهِ غُلامٌ
طَهَ وَسورَةَ غافِر
فَقالَ مَن قالَ هَذا
هَذا لِعَمرِيَ شاعِر
أَرَدتُ صَفعَ قَفاهُ
فَخِفتُ صَولَةَ جائِر
أَتَيتُ يَوماً بِتَيسٍ
مُستَعبِراً مُتَحاسِر
فَقُلتُ قوموا اِذبَحوهُ
فَقالَ إِنّي يُخامِر( )
ومن المظاهر الاجتماعية العامة التي عالجها شعره زواج القاصرات من رجل كبير السن ذي مال وجاهٍ..فاستخدم الغزال الأسلوب الحواري القصصي بين الفتاة وأبيها،فانظر ماذا قال:
وَخَيَّرَها أَبوها بَينَ شَيخٍ
كَثيرِ المالِ أَو حَدَثٍ فَقيرِ
فَقالَت خُطَّتا خَسفٍ وَما إِن
أَرى مِن حُظوؤٍ لَلمُستَخيرِ
وَلَكِن إِن عَزَمتَ فَكُلُّ شَيءٍ
أَحَبُّ إلي مِن وَجهِ الكَبيرِ
لِأَنَّ المَرءَ بَعدَ الفَقرِ يُثري
وَهَذا لا يَعودُ إشلى صَغيرِ( )
لقد عالج النص إحدى قضايا المجتمع الأندلسي خاصة،والعربي عامة، وهي إجبار تزويج القاصرات بالأغنياء الكبار سنًّا.والصورة المجتمعية لهذه الظاهرة صورة قاتمة إذ لا تستقيم مع الفتيات وهن الصغيرات الطامحات إلى الزواج بشباب في مثل أعمارهن لتكتمل الصورة المنطقية.لكنّ الأمر لا يكون على هذه الحال بعد إرغامهن على الزواج بمن يكبرهن أعمارا، ويفوقهن سنا.والأسلوب الفني في الحوار اتخذ التقابل والتضاد سبيلا لإبراز الحد الفاصل بين عهد الشيخوخة المؤْذن بالأفول،وعهد الشباب المستقبِل للحياة،كذلك بين الفقر والغنى..كل هذا من أجل إبراز المفارقة التصويرية التي تجعل من هذا الأمر أمرا مرفوضا في الواقع والحيال.