هو وأكتر

يكتبها : محمد فيض خالد
نصَحني أكثرَ من زميلٍ ؛ أن ابحث عن وسيلةِ مواصلاتٍ مَضمونة ، فالوصول لهذا المكان مُرهقٌ ومُكلِّف ، ولابُدّ من سيارة جاهزة وفي المتناول ، حَاولتُ لأسبوعٍ كامل أن احتال لنفسي ، في تمَردٍ مُبكِّر على النصيحة ، لكنّي فشلت فالكُلفة باهظة ، ومَشقّة الحُصول على تاكسي في هذا التوقيت شيءٌ من العَبثِ ، ناهيك عن استنزافِ الوقت في مُساوماتٍ بلا طائلَ ، مع سائق يظن لمظهري ، أنّي وجيهٌ أمثل لا يجب أن يُفوّت، كما أن ساعة الخروج تُوافق غَضبَ السماء ، التي تصب بسَخاءٍ حِميما يشوي الوجوه كفوهة بركان ثائر .
قابلته لأول مرة ، فرأيتني أمام عَجوزٍ أسيوي بارز الملامح ، لحية بيضاء، ووجه حِنطي داكن ، ورائحة التوابل الحريفة تَفوحُ لاذعة من عرقهِ ، وصلعة مستديرةٌ بجرأة ، حَسرت شَعرَ رأسه حَولَ أذنيهِ في شَريطٍ ساحلي يشبه الحواجب ، ومع قِصرِ قامته فقد بدى في ثِقةٍ عجيبة ، يُشعرك بأنَّه صَبي في العشرين ، أمسكَ بيدي يهزها، قبل أن يُعاجِل فيغرس رأسه في طَاقيٍة بيضاء ، مَرّرَ يده فوق خصرهِ المكُتنز ، قائلا في إيجاز :” هلا صديق أنا أكتر” ، اكتفيت بتحريكِ رأسي مُحيّيا، أشارّ بيده نحو سيارته ، كانت قديمة لدرجة اعتقدت أنَّها خُردة لا روحَ فيها ، سَريعا ألقيت بجسدي المُجهد فوقَ الكرسي في ِشبهِ اعياء ، جَلسَ إلى المِقودِ برزانةٍ مُلفتة ، تَنحنحَ في ِثقةٍ مبسملا ، أدارَ المفتاح ، جاءه صوت المُحرِّك في بُكاءٍ مُتقطِّع ، التفت إلّي مُستغفِرا ، لكنّه عَدّلَ من جِلستهِ وشَرعَ في السَّير ، اعتذر مُقَّدما عن الجو الخانق ، فمكيف السيارة بحاجٍة لصيانة ، وعلى نهاية الأسبوع سيكون الأمر على ما يرام.
مُبكرا أوصاني صديق ألاّ ارضخ لطلباتِه ، فهو مادي يعبد القرش ، حَدّدنا الأجرة ، تعَمّدت أن تكون أزيد من المُتفق عليه ، اكتشفت أننَّي أُسقطت في يَدِ واعظ مُخضرم ، يجيد ليّ اعناق النُّصوصَ بمهارة ، ليوظفها في تأويلاتٍ شرعية مقنعة، يفتتح قيادته بآياتٍ من الذّكرِ الحكيم ، وأدعية بحروفٍ مُخلخلة غير واضحة ، ثم يتبع ذلك بلزمةٍ تعودها:” كل دونيا ما في مظبوط ” ، للحقيقة تفاني في كسبِ ثقتي ، فكانت عبارات الثناء تنهال عليّ خاصة وأنا أناوله أصابع الموز التي يعشقها ، لم اُعدم نصائحه بمناسبةٍ وبغير مناسبة ، يقولُ بأسلوبِ الخَبير المُجرِّب :” أنا موجود شغل تلاتة تلاتين سنة ، أنا اعرف كل شي “، وعلى الرغم من قِصرِ الطريق ، لكنَّه بدى سِجنا كَئيبا لا ينقضي ، ما إن اتحرَّر منه حتى اتشهَّد ، فتيار الهواء اللاَّفح يحَكّ وجهي قاسيا ، وملابسي تنضح عَرَقا أبدو فيها كغَريقٍ يبَحثُ عن النَّجاةِ ، فاتحته أكثر من مَرةٍ أن يُصلح المكيف ، لكنَّه تَحَّجج بأعذاٍر لا تنتهي ، اهتديت ذات يوم لحيلةٍ أظهرت له فيها بطَرفِ ورقةٍ من فئةٍ مالية كبيرة، التقطها كنَسرٍ جائع ، لتغيب في سراديبِ جيبه ، اغمضت عيني قليلا مُستسلما لقضاء الله قانعا بعجزي وقد ثقلت دمائي في جسدي، فلم أشعر إلا بتيارِ هَواءٍ بارد يُداعبني ، مَددّت يدي اتحَسَّسه ، كَانَ الخبيثُ يتابعني ، ضَحكَ مطمئنا، وهو يقول بوجهٍ طفولي:” مكيف الحين زين “.