هل نظرت في عين ابنك اليوم؟

الدكتور ماجد رمضان – طبيب وكاتب

تمر على الإنسان لحظات عصيبة ومن أصعبها مرض أحد الأبناء، فتشعر بقلة الحيلة حينما تقف بجواره عاجزا لا تستطيع أن تقدم له ما يخفف من آلامه، أو تزيل ما يشكو منه، فينفطر قلبك وتتصدع صلابتك وينهد جسدك، والأصعب من ذلك أن تكون طبيبا وتقف مع بقية الأطباء تبحث عن سبب المرض وتدرس كل الاحتمالات وتتداعى إلى ذهنك كل ما درسته من أمراض وما عرفته من مضاعفات فيزداد تخوفك ويتضاعف عجزك.
مع أن أول درس تعلمناه في طريقة تشخيص الأمراض، هو تشخيص الأعراض في البداية على أنها أعراض لأكثر مرض ملائم، وليس على أنها أعراض لمرض آخر غير مألوف نادر الوجود.
إن المريض الذي يعاني من درجة الحرارة الخفيفة والعطاس والسعال يرجح أنه مصاب بالبرد العادي وليس الجدري ومع ذلك إذا ظهرت أعراض أخرى بعدها بعدة أيام مثل الطفح على الوجه والعيون الدامعة، فربما يعاني المريض من مرض اقل شيوعا مثل الحصبة.
وكما تقول الحكمة: حين تسمع وقع حوافر، فكر في الجياد، لا الحمر الوحشية.
هذا ما مررت به خلال تعرض ابني البالغ من العمر وقتها سبعة عشر عاما لارتفاع حاد في درجة الحرارة.
مضى أسبوعان وهو منوم في المستشفى، ولا تمضي ساعة إلا وطبيب يدخل وطبيب يخرج، والممرضات يأخذن العلامات الحيوية بهمة ونشاط، ولكن لا نتيجة عن سبب الحمىً.
كنت أنظر إليه فأرى حاله كحال المتنبي حين أصابته الحمى وكان يقاوم الارتفاع الشديد في درجة حرارة جسمه، وشعوره أحيانا بالبرد والارتعاش، وإحساسه بجفاف حلقه وبالعرق الغزير يتصبب من جسده.
ما عشته تحديدا وأنا ألازمه في المستشفى هو الشعور بثقل الزمن، فلم أعد أفرق بين الليل والنهار، ولم أكن أنام إلا قليلا خلال الليل، ليمكنني أن أتابع درجة الحرارة لحظة بلحظة.
وفي هدأة الليل، عندما يخلد الجميع للنوم، المرضى على الأسرة والمرافقين على الأرض بجوار السرير، والتمريض مسترخيات في أماكنهن، كنت أظل متيقظا على الكرسي، أتابع قطرات المحاليل التي تنساب عبر أنبوب نحيل لتمر من خلال كانيولا مغروسة في ظاهر كفه.
فكنت أهيم في عوالم الأدعية والرجاء والتوسل، بأن يلطف به الله، وتنساب دموع حارقة على خدي.. دموع صامتة.
ولكن ما توقفت عنده أن الاستشاري المعالج سألني يوما وهو يشير إلى عيني ابني:

  • هل تبدو منتفخة أم هذا شكلها الطبيعي؟
    باغتني السؤال، وتحولت نظراتي بسرعة لعيني ابني وهممت بالإجابة فلم تخرج كلمة من فمي تلعثمت، انحبست الكلمات، ثقل لساني فلم ينطق.
    لم أستطع أن أجيب على سؤاله، لأني لم أكن واثقا من إجابتي؟
    انصرف الطبيب، اقتربت من ابني، وضعت يدي على خده؟ ما أروع هذا الإحساس؟
    نظرت في عينيه؟ ما أجملهما؟ دققت النظر إليهما؟ وكلما أطلت النظر أكثر، كلما ازدادوا جمالاً وسحراً؟
    نسيت ما كان يسألني عنه الطبيب؟
    سألت نفسي؟ ما هي آخر مرة لمست خده بحنان؟ ما هي أخر مرة نظرت في عينيه نظرة حب وعطف؟
    لم أستطع تحديد الفترة؟
    تداهم ذاكرتي خيالات وصور وهو طفل صغير ألاعبه أضمه أقبله أتحسس خده بأناملي أتمعن في عينيه؟
    إذن ماذا حدث؟
    هل لأنه صار شابا … فقل الاهتمام والتعبير عن مشاعر الحب؟ أم أنها الحياة ومشاغلها؟
    ففي ظل الضغوط الحياتية التي لا تنتهي أبدًا يعجز الكثير من الآباء عن توفير الوقت الكافي للبقاء مع أبنائهم والتعبير عن مشاعر الحب، فينسون تقاسيمهم والتغيرات التي تطرأ على أجسامهم والتي كان يتابعها بشغف وهم أطفال.
    لكن بعض الآباء والأمهات ممن لا يستحقون ألقابهم ينطبق عليهم المثل الألماني الذي يقول‏:‏ من أتجر في الزهور لم يشم رائحتها‏!‏
    بمعني ان من يجد الزهور حوله كل يوم قد يضعف إحساسه بجمالها‏,‏ وتتحول بالنسبة اليه الي بضاعة كغيرها من البضائع التي لا يعز عليه فراقها‏..‏ بل لعله يجد في بعدها عنه ما يحقق له المصلحة المرجوة منها‏..‏ وهي التخلص منها بالبيع‏!‏
    والآن:
    متى آخر مرة نظرت في عيني ابنك؟ ليس من أجل أن تجيب على سؤال الطبيب ولكن لأنه ابنك وأنت تحبه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: