نوفيلا المكان في التراث العربي
"أدب الغرباء" لأبى الفرج الأصفهانى نموذجاً ( 2)
وإذا تحته مكتوب بغير ذلك الخط:
سأحذرُ منها ركوبَ الخَطَر
فإما انتفاعٌ وإما ضَرَرْ(23).
صَدَقْتَ صَدَقْتَ وعندى الخبرْ
وأَحْمِلُ نفسى على حالةٍ
يعانى بطل هذا الخبر القصصى اغتراباً نفسياً مزدوجاً:
الأول: نتيجة الاغتراب الجغرافى المكانى الذى يكابد فيه شقاء البعد عن الوطن، وافتقاد رؤية الأهل والاطمئنان عليهم، مما قد تضعف معه الذات، وتفقد السيطرة على إرادتها واستوائها النفسى، ويتحول عالمها إلى فضاء شاسع من المخاوف والأوهام.
والثانى: ناتج عن التأمل الفلسفى المصحوب بقدر من التشاؤم فى تقلبات الحياة وظواهر الكون. ويؤدى ذلك إلى شعور الإنسان بالانفصال عن مجتمعه نتيجة الإحساس بالقلق والتمزق، أو ضياع الذات واستلابها للوحشة والتفرد، رغم التعايش أحياناً بين الأهل فى داخل الوطن. فالأمر – فى جوهره – يتعلق بمن يشاركه مشاعره، ويكتمل به كيانه ليحقق ذاته. ولذا جاء فى بداية الخبر “فقد الأحبة فى الأوطان غربة”.
والاغتراب بذلك يمثل محنة يتنامى معها الشعور بفقدان الحرية والحيوية، مما يعد داء ثقيلاً يحول دون شعور الإنسان بالتوافق مع نفسه ومع العالم. ولذا لا تجد الذات المنقسمة من مخرج سوى إعادة المحاولة للتواصل مع الآخر ومشاركته الحوار حول مهادنة الواقع، وإن امتزج ذلك بشىء من العبثية والعدمية حيناً، وبالرضا والقناعة حيناً آخر.
***
وتدل هذه الأمثلة وغيرها على أن الكتاب شأنه شأن كثير من كتب تراثنا لاتزال صالحة للقراءة والاستلهام، بما تناقشه من موضوعات وتطرحه من رؤى، يمكن وصفها بأنها مؤثرة من الناحية الإنسانية. أى أنه تراث حى متطور يتواصل مع بعض ما يشغلنا من قضايا، وننشده من تغيير.
وهناك سؤال مهم قبل أن ينتهى البحث من دراسة المظهر الدلالى أو المحتوى فى “أدب الغرباء”، وهو هل ما سبق هو المستوى الدلالى المباشر الذى يطرحه الكتاب، أم أن هناك مستوى آخر أعمق يمكن قراءته، ومناقشه آليات ترميزه؟ إن من أهم ما يتميز به المنهج البنيوى هو تحليل النص السردى فى ضوء أو مفهوم أنه بنية واحدة يتجادل كل عنصر فيها مع العناصر الفنية الأخرى لتكوين البنية الكلية للنص “إن فهمنا للأعمال الأدبية لا يصبح مطابقاً لها محتوياً لدلالاتها إلا إذا أخذ فى الاعتبار تلك البنى الجزئية التى تتكون منها والعلاقات الماثلة فيما بينها. هذا التطور الكلى للأبنية واعتبار البنى الجزئية ليست من الأجزاء المادية المحسوسة هو جوهر النظرية البنيوية… إذا تحدثنا عن السرديات فى القصة سنجد أنها تتكون من أبنية تتمثل – مثلاً – فى بنية الأصوات… الشخصيات… الزمان… ثم بنية الخطاب السردى ذاته المتمثل فى مستويات اللغة المختلفة من سرد وحوار وحوارية وغير ذلك من العناصر الداخلة فى الخطاب الروائى… ولا تتركب البنية الكلية إلا من طبيعة الشبكة المتداخلة والمتراتبة والمنظمة فى هذه البنية الجزئية”(25). إن هذا هو ما سنحاول تطبيقه عند دراسة التشكيل الفنى وعلاقته بالمظهر الدلالى للأخبار القصصية فى الكتاب.
***
التشكيل الفنى:
يعد الخبر القصصى أحد أنواع القصص فى الأدب العربى القديم، ويتميز بأنه يسوق خبراً ما تاريخياً أو حضارياً أو اجتماعياً أو عاطفياً.. فى شكل قصصى يعتمد على الرواية والحكى، لنقل هذا المحتوى إلى المتلقى بشكل محبب وممتع يرسخه فى الأذهان، خاصة فى القرون الأولى التى كانت تعتمد على المشافهة فى نقل الأخبار أكثر من اعتمادها على التدوين. ولاشك أن تقديم الخبر فى شكل قصصى يعد عاملاً من عوامل الجذب والتشويق لدى المتلقى عن طريق السماع أو القراءة على السواء.
إن بنية الخبر التراثى هى أقرب ما تكون إلى بنية القصة القصيرة “إن صياغة الحكاية القصيرة كما نشاهدها فى فصول كثيرة من كتب الأخبار وكتب الأدب بخاصة عن الجاحظ وابن المقفع وفى ألف ليلة وليلة لا تختلف فى كثير عن شروط القصة القصيرة فى بداياتها. وعند بعض المذاهب القصصية حتى الآن”(26).
إن كتاب “أدب الغرباء” نص يجمع بين الواقعى والخيالى، يتألف من حكايات / أخبار متتالية، وكل منها حكاية مقفلة على ذاتها، ولكنها ترتبط بالحكايات الأخرى فى الوحدة السرية ووحدة الموضوع والموقف. وقد شاع هذا البناء فى القص العربى القديم الذى تأتى الحكايات فيه “… واحدة تلو الأخرى، لأنها فى مجموعها تمثل موقفاً واحداً، عندما تملأ حكاية منها الفراغ الذى تتركه حكاية أخرى… إن القص عندما يتحرك فى حيوية مع أحداث الحياة اليومية، فإن كل حكاية تمثل عندئذ مقطعاً عرضياً أو طولياً فى واقع الحياة… على أن القص فى التراث العربى لم يقتصر دوره على خلق الإثارة المستمرة للحقائق المطلقة، بل إن القص قد وظف كذلك توظيفاً فنياً لإثارة جوهر الحقائق الاجتماعية المحدودة. ولعل هذا يفسر لنا حرص بعض كتب التراث على أن يختص كل منها بتقديم ظاهرة اجتماعية واحدة تحاك من حولها الحكايات والأخبار، وليس الغرض من تقديم هذا الكم الهائل من الحكايات والأخبار سوى الكشف عن الأبعاد الاجتماعية المثيرة لهذه الظاهرة، ومن هنا كانت الكتب التى اختصت بأخبار الطفيليين وحكاياتهم، والبخلاء، واللصوص، والمحتالين، والظرفاء، وغير ذلك”(27).
ونظراً لما يجمـع بيــن هـــذه الأخبــار – فى ذلك النـوع من القصص التراثى – من وحدة الموضوع والمضمون فإن ذلك يجعلها أقرب إلى بناء الرواية أو النوفيلا التى تتكون من بنى جزئية أو متتاليات سردية. وبالمثل فقد حاولت أساليب السرد الحديثة “قهر الحكاية، واستبدال علاقات التتابع المعروفة فيها بعلاقات تداخل وتكرار، وأبقت على متنها، وكل هذا كان نتاجاً لغاية تهدف إلى إحداث خرق فى بناء الحكاية(28).
وقد أفاد بعض الكتاب المعاصرين فى تجـاربهـم القصصــية من التـــراث العــربــى، وقــدمـوا أعمالاً توظف بعض أشكال القص التراثى، وعناصره، لإثبات أصالة القص القديم، ونفى محاكاة القصة الحديثة للنموذج الغربى – من ناحية – ولتأسيس مشروع قصص عربى معاصر يستمد جذوره وخصــوصيتـه من التراث العربى، من ناحية أخرى. وقد وظف جمال الغيطانى – على سبيل المثال – فى روايته “رسالة البصائر فى المصائر” شكل الخبر التراثى كما نجده فى كتب الأخبار عند الجاحظ فى البخلاء أو الأصفهانى فى أدب الغرباء. فالرواية تقدم مجموعة من الأخبار أو الحكايات المتفرقة.. الجزئية عن بعض النماذج الإنسانية للتحول القيمى والحراك الاجتماعى المعكوس فى عصر الانفتاح – فى فترة السبعينيات من القرن العشرين. والبناء العام للرواية يمثل “نمطاً من أنماط البناء هو أقرب ما يكون لذلك الذى قام عليه كتاب البخلاء للجاحظ، وذلك أن كلا العملين قائم على أساس رصف مجموعة من الحكايات المتفرقة والمتمايزة فى تفاصيلها، والمتماثلة فى الموضوع الذى تعالجه. فإذا كان البخل هو الموضوع الطاغى على مجموع حكايات بخلاء الجاحظ فإن الاغتراب والغربة هما محور هذه الرسالة بل إن العنوان فى كل من العملين وحده يكشف عن وحدة الموضوع رغم تنوع الحكايات وتفصيلات بنائها”(29). ومعنى ذلك أن البناء الفنى للأخبار التراثية يتشابه وبعض نماذج القص المعاصر مما يدل على تقارب عناصر الجنس الأدبى بين القديم والحديث.
وبهذا يمكن القول إن “أدب الغرباء” نص سردى طويل، وان النظام الشكلى لهذا السرد يجعله يقترب من البناء الفنى للنوفيلا أو الرواية القصيرة.
***
***
الفضاء السردي… رمز وصول وآلية تواصل:
“الفضاء هو الحيز المكاني في الرواية أو الحكي عامة. ويطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي… والفضاء معادل لمفهوم المكان في الرواية التي تصوره قصتها المتخيلة… ومجموع الأمكنة هو ما يبدو منطقياً أن نطلق عليه اسم: فضاء الرواية، لأن الفضاء أوسع وأشمل من معنى المكان. إن المكان وفق هذا التحديد شمولي، إنه يشير إلي المسرح الروائي بأكمله. والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء الروائي”(43)، فالفضاء “مثل الزمن … مجرد شىء نسبى، وبذلك فهو ناتج عن جمع الأمكنة كلها”(44).
وإذا كان للفضاء أهميته السردية القصوى في القص، إذ فيه يتشكل العالم القصصي بكل مكوناته، فيمكن القول إن الفضاء المكاني يشكل البطولة الرئيسة في الأخبار القصصية في “أدب الغرباء”، فهو محور رئيس يربط بين الدلالات التي تثيــرهــا كـل منها، كـما تمتزج به عناصــر البناء الأخري من أحداث وشخصــيات. والمكــان بذلك لا يصبح مجرد فضاء جغــرافـي أو خلفية تتحرك في إطارها الشخصيات، وإنما مكون أساس يرتبط وجودها الفني ووظائفها السردية به.
فالغرباء لا يبدأون تجربتهم، ولا يعبرون عنها إلا بعد وصولهم إلي موضع الغربة والاغتراب، بل إن عنوان الكتاب منذ البداية يأتي على شكل مضاف (أدب)+مضاف إليه (الغرباء) نسبة إلي مكان الغربة، فيكون عنوان الكتاب تبعا لهذا التركيب الإضافي هو (أدب الغرباء).
ويصبح الفضاء بذلك علامة دالة ذات مظهرين:
الأول: خارجي (صورة) أو دال، وهي التعبير اللغوي الذي كتبه أو سجله الغرباء في المكان، ليكون شاهدا أو أثرا على انفتاح العربي علي عالم جديد مترامي الأطراف يتجاوز حدود الصحراء والأطلال والديار، ولهذا تتنوع أنماط المكان*: مسجد – كنيسة – قصر – منزل على نهر – صخرة – منارة الإسكندرية… ليعكس هذا التعدد الجديد مرحلة التحول الحضاري التي شهدها المجتمع العربي في العصر العباسي الزاهر. وعندئذ يكون التعبير اللغوي أشبه بالشعار أو العلم الذي رفعوه في مكان الوصول شأن المنتصرين، وأحيانا أخرى يكون كالرسم الذي يتركه المرتحلون الحائرون على شجرة أو حائط، ينشدون به آلية للتواصل الإنساني في عالم متسع مترامي الأطراف، ولكنه لم يشهد وسائل اتصالات أو ثورة تكنولوجية كما نشهدها اليوم.
الثاني: داخلي (فكرة) أي مدلول، تتمثل في المعني الذي يطرحه الوصول والشعار، وهو سمو البعد الإنساني في شخصية الإنسان صاحب الحضارة، فعلى الرغم من الانتصار حينا والمرارة حينا آخر في تجربة الاغتراب، فإنهم لم يقعوا في فخ الانفصال عن ركيزتهم الحضارية الأولي، وظلوا دائما مشدودين إلي بؤرة أصيلة تشكل مركز هذه الخلفية المكانية، وسر قوتها، وهي منظومة الفضائل والقيم والثقافة الوسطية التي تتعادل فيها الثنائيات: الروح والمادة… الدهاء والشفافية… اللين والشدة… الخير والشر… الحياة والموت، وهي ثنائية تقوم عليها حضارته وعقيدته والكون جميعا.
ومن ثم فالكتاب يقدم سردا متناغما مع هذه الثنائية التي تحكم العلاقة بين الفرد وذاته، وبينه وبين مجتمعه والكون، بما فيها من نصر/ ألفة، أو انكسار/ غربة… وصول ووجود، ثم بحث عن التواصل الحميم المفقود، وربما يمثل هذا وجها مختلفا للمظهر الدلالي أو مستوى آخر لقراءة “أدب الغرباء”.
وهذه نماذج من الكتاب توضح تشكيل الفضاء المكاني وامتزاجه بعناصر القص الأخرى في الأخبار القصصية المختارة.
ويمكن تصنيف أنماط الفضاء في الكتاب الي ثلاثة أنماط رئيسة هي:
الفضاء المحلي:
“حدثني أحمد بن زياد الكاتب، عن شيخ لقيه ببغداد، من أهل همذان قال: حدثني أبو الحسن على بن يحيى المنجم، عن أبيه قال:
أخذ الواثق يوما بيدي يتكئ عليها، ويطوف على الأبنية بسر من رأي ليختار منها بيتا يشرب فيه ذلك اليوم فلما انتهي إلي البيت المعروف بالمختار استحسنه، وجعل يتأمله وقال لي:
هل رأيت أحسن من هذا البيت ؟ قلت يمتع الله أمير المؤمنين به وتكلمت بما حضرني، وكانت فيه صور عجيبة…، ثم أمر بفرش الموضع وإصلاح المجلس، وحضر الندماء والمغنون وأخذنا في الشرب، فلما انتشى أخذ سكينا لطيفا كانت بين يديه، وكتب على الحائط كأني أراه:
ما رأينـا كبهجـة المخــتار لا ولا مـثـل صـورة الشهار
مجلـس حـف بالسـرور والنر جـس والآس والغـناء والبهار
ليس فيـه عيب سوى أن ما فيـ ـه سيفنيـه نـازل المقـدار
فقلنا: يعيذ الله أمير المؤمنين ودولته من هذا. ووجمنا فقال:
شأنكم وما واتاكم، فما يقدم قولي خيرا و لا يؤخر شراً”(45).
فــي هذا الخبر يقدم الراوي نموذجا لعناية العربي بأمر المكان أو الموقع، وتقـديــر أهميتـه في حياة الفرد والجماعة.فالخليفة يتجول في المدينة – سر من رأي – بحثا عن منزل يتناسب وقضاء بعض الوقت في السمر والمنادمة والترويح البرىء مما يعانيه من صعاب بعض شئون الحكم والخلافة.
ويستحسن الخليفة أحد هذه المنازل لما يتمتع به من روعة البناء والتنسيق من الخارج، ومن الداخل أيضاً حيث يحتوي على صور عجيبة تسجل بيعة الرهبان وكاتب العهد.
والفضاء السردي في هذا الخبر ليس مكانا واحدا رغم اقتصاره – في المستوى الظاهر في النص – على “قصر المختار” الذي يمثل المكان الواقعي/ في الحاضر، فهناك نوع آخر هو المكان الخيالي/ في الماضي، تشكل في وعي الخليفة وحاشيته حين حلموا به، ورسموا طبوغرافيته: مشرق… واسع… عليل. إن “أغلب النقاد الذين تحدثوا عن الفضاء كانوا يراعون شرطا أساسيا، وهو وجود مجال مكاني معين يمكن أن يدرك أو يتخيل…”(46).
وفي لحظة الوصول يتوحد المكانان الواقعي/ الحاضر والخيالى/الماضى، ويأتى وصفه فى السرد المباشر للشخصية/ للخليفة – شعرا** – بأنه متفرد ولا نظير له.
وبرغم ذلك فإنه يقف عاجزا عن الصمود في وجه الزمن / المستقبل (سيفنيه نازل المقدار). إن الفضاء السردي في هذا الخبر يجسد حضارة الإنسان العربي أو يعيد صياغتها – عبر المكان والزمان، وفق ما يعكسه تاريخه ومعتقداته الراسخة.
كما أن الفضاء 0 في هذا الخبر القصصي – يمتزج بالبطل العربي الذي أجاد الحوار مع الآخر وأقام معه العهود والمواثيق وحفظ له الوفاء وحسن الجوار. فالمكان يسجل عن طريق الصور – بما لها من شعرية مكانية(47). هذا التاريخ الحافل للإنسان العربي، ويعكس ذلك ارتباط كل منها بالآخر: الإنسان والمكان، كما يعكس الامتزاج القوي بينهما في التشكيل السردي للخبر القصصي.
ويمتزج المكان أيضاً بذلك الآخر الذي أصبح ركنا أساسيا في منظومة الحضارة العباسية. والآخر هنا هم قاطنو المدينة – سر من رأي – التي بناها الخليفة الواثق لعسكره من الأتراك، وبذلك فقد تشكل المكان على نفس القدر الذي يكون عليه أصحابه من الجمال والبهاء وربما يقترب ذلك من المفهوم الشامل للبيئة في السرد الحديث.
***
الفضاء الأجنبي:
“أخبرنا أبو القاسم على بن محمد… قال:
اجتزت بنواحي بلد الروم مما يلي خرشنة، فاجتزت بمدينة حسنة البناء يحيط بها سور من حجر أبيض تخالطه حمرة ومياه تجري من عيون في داخل الحصن، وأشجار كثيرة الثمر وظل ثخين تحت شجرة جوز، فأعجبني الموضع، وجلست أحادث رجلا من أهل المدينة، يحسن العربية فقال: كان طرأ إلينا شاب ذكر أنه من أهل العراق، حسن الوجه، نظيف الجملة، غزير الأدب، وكان لا يفارقني. فأقام في بلدنا سنين ثم مرض فعللته وقمت بأمره، فلم يلبث أن مات فحزنني ودفنته في تلك القبة – وأوما بيده إليها – على قبلة الإسلام. وكان في مرضه كتب على الحائط من البيت الذي كان فيه ووصى أن يكتب على قبره فقم لتقرأه، فإذا قد كتب على الحائط.
تعسفتُ طولَ السير في طلب الغني فأدركني ريبُ الزمانِ كما تري
فيا ليت شعري عن أخِلاّيَ هل بكوْا لفقـديَ أم ما منهمُ من به دري
قال: فكتبت الأبيات وانصرفت من الموضع حزيناً” (48).
نجد أن هذا الخبر القصصي وصفا دقيقا لطبيعة المكان، سواء في المباني أو العيون التي تجري منها الأنهار أو الأشجار الكثيفة المثمرة، والظلال الرطبة، كما نجد أن الراوي المشارك الداخلي يعني بتحديد المكان (من نواحي الروم مما يلي خرشنة)، ويحرص على ذلك الوصف بدقة.
هذا، ويكشف المكان في هذا الخبر عن بعض دلالات القصة، ويمتزج ببعض عناصرها مثل: نموذج الإنسان الأجنبي (الرومي) في البلاد التي فتحها المسلمون ورأوا فيها مثالا للجمال الإنساني، لم يكن مألوفا كثيرا بينهم، فالسور أبيض كبشرة هذا الأجنبي، تخالطه حمرة كوجهه الناصع المشوب بحمرة، مياهه تجري من عيون في داخل الحصن كالرضاب الطيب الذي تغني به الشعراء والمغنون. كما يمتزج وصف هذا المكان الجميل مع بطل القصة أيضا وهو عربي (الطرف الثاني في العلاقة بالآخر)، فهو يتميز أيضا – كما في الخبر – بأنه (نظيف الجملة/غزير الأدب ).
ويقدم الراوي وصف هذا الفضاء من خلال حاسة البصر وهي ” أساس بناء الجماليات ” (49)، وربما أضاف إلي ذلك بعض صفات حاستي السمع ( صوت المياه ) والشم ( رائحة الأزهار والثمار ). وترسم هذه الصفات معالم المكان وتؤسس لجمالياته، عن طريق الوصف الحسي حينا، والإيحاء وإثارة الخيال حينا آخر.
كما أن “إضفاء صفات إنسانية على البيت يحدث علي الفور حين يكون البيت مكانا للفرح والألفة، مكانا يستقطب ويكثف الألفة ويدافع عنها”(50). وهكذا يرتبط بناء الفضاء بشبكة من العلاقات مع مكونات السرد الأخرى من الرؤى والدلالات وعناصر التشكيل، ويصبح المكان منظما للحركة السردية في الخبر القصصي وأداة فاعلة لتماسكه النصي.