نوفيلا المكان في التراث العربي – “أدب الغرباء” لأبى الفرج الأصفهانى نموذجاً ( 3)  

الأستاذة الدكتورة أميمة عبد الرحمن محمد
أستاذ الأدب والنقد ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس

المكان الغرائبي:
“حدثني أبو محمد بن حمزة بن القاسم قال: حدثني رجل من أهل الفسطاط قال: كنت ممن يدرس كتب المطالب ويقفو آثارها ويسافر إلي مواضعها، أنا وجماعة من أهل مصر، فوقع إلينا في بعض الكتب خبر مطلب عظيم الشأن في بلاد اليونانية، بينه وبين مصر مسيرة ثلاثة أيام في طريق غير مسلوك. فأخذنا وصفه وتزودنا وسرنا بين آكام وجبال ورمال خفناها، حتي إذا مضت ثلاثة أيام أشرفنا علي سور عظيم منقور من حجر أبيض كالثلج فيه تلميع أسود كالجنازير التي تكون علي السور، فكبرنا الله جل اسمه وحمدناه. فلما قربنا من أحد أركان الحصن إذا عليه كتابة في بياض الحجر بسواد بسم الله الرحمن الرحيم: يقول فلان ابن فلان: من وصل إلي هذا الموضع بعدي فليعجب من قصتي وليرث لمحنتي.
خرجت هاربا من الإملاق، وتضايق الأرزاق، فعدل بي عن السداد، وتهت في البلاد، وبلغ بي الدهر إلي هذا القصر:
فيا ليت شعري متي ينقضي عناني وتُكْشَفُ عني المحنْ
شريدًا طريدًا قليلَ العـزاءِ سحيـقَ المحلِّ بعيدَ الوطنْ
فاستطرقنا أن تكون الغربة بلغت إنسانا إلي ذلك المكان. ثم درنا حول السور نطلب الباب، وإذا هو قد خفي علينا من نسج الرياح عليه الغبرة والقتام، ثم بان لنا، فلم نزل نكشف عنه حتي ظهر قفله وعتبته، وإذا هما مصراعان من جزع عليهما قفل ذهب عظيم، وإذا علي الباب مكتوب:
قد بنينا وسوف نـفـني ويبـقي ما بنينـا من بعـدنا أزمانا
ليس يبقي علي الزمان سـوي الله (م) الـذي لا نـراه، وهْوَ يرانا
فعجبنا من الشعر أيضا ولم نزل نعمل الحيلة في القفل حتي فششناه وفتحنا المصراعين، فحين فعلنا ذلك سمعنا صيحة عظيمة هالتنا من داخل القصر، وجلبة أفزعتنا، ودويا حيرنا. فتوقفنا عن الدخول. ثم علمنا أن ذلك من عمل الجن. ثم رجعنا إلي صفة المطلب فوجدناها تدل علي أن فيه طلسما مخوفا عظيم الشأن، فعلمنا أن الأمر من جهته. فدخلنا فإذا أبنية قديمة عظيمة وآثار مهولة. وحيات أزلية. فتوقفنا ثم لم نزل نتسلل إلي أن وصلنا إلي صحن في صدره قبة عظيمة عالية من صخر، يكون داخلها ثلاثين ذراعا في مثلها، في صدرها سرير من ذهب عليه شخص ميت، حزرنا طوله خمسة عشر ذراعا وإذا في وسط القبة شخص ماثل من نحاس، تام القامة بعينين تدوران في رأسه، قبيح المنظر، وحركات في أطرافه، لا يشك من يراه أنه حيوان. وإذا الصيحة من جهته، والدوي من تلك البقعة. وفي يده سيف مشهر لم نر أتم منه، وهو رافع بيده لا يعمل شىء إلا أن يحرك عينيه، ويلتفت رأسه كالحذر . حتى إذا وضع أحدنا رجله على أرض القبة فى سائر أقطارها أدارها كأسرع ما تدور رحي الماء، وضرب بالسيف يمنة وشمالا وتجاها ووراء كما يفعل اللاعب بالمخراق، ضربا أسرع من الريح. فمهما قرب منه قده وأهلكه من سائر نواحيه. وإذا الكنز في أرض القبة تحت الطلسم، فلم نزل نعمل في قلعه كل حيلة بالرجم بالحجارة، وغير ذلك، وهو أحكم من هذه الحال، إلي أن قرب الليل، وخفنا الأفاعي التي في القصر فخرجنا ولم نحظ إلا بقفل الذهب، فإنه كان فيه نحو خمس مائة مثقال، وإذا على صدر الطلسم كتابة يلوح فيها هذان البيتان:
تعبٌ يطولُ لطامعٍ في نيْـل ما أمسيْت جامِعَه فقل لا تَطْمَع
واسـترزق اللهَ العليَّ مكانـه ودَعِ التَّطُّلبَ للمطالبِ واقْنَعِ
وانصرفــنــا راجعـــين إلى مصــر، وآليت أن لا أســافر فـــي طلــب الكنوز بعدها(51).
يتسم المكان في هذا الخبر بكثير من الغموض والعجائبية وكأنه من منظور الراوي الداخلي المشارك عملا من الجان إذ تكثر فيه الطلاسم، والمصاريع، والأقفال الذهبية، كما يوجد فيه حيات ضخمة وبعض الكائنات غير العادية والعمالقة… يستدعي هذا التشكيل للمكان، صورة المكان الغرائبي في الحكايات والأساطير، وما أكثرها في المورث العربي منذ الأساطير الجاهلية إلي ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحي بن يقظان وغيرها….
“إن هنالك دائما أشياء في العلبة المغلقة أكثر من الأشياء في العلبة المفتوحة إن تحديد الصور يقتلها والخيال دائما أكثر خصوبة من التجربة، إن نشاط السري يمر دون انقطاع من الإنسان الذي يخفي الأشياء الي الإنسان الذي يخفي الذات وهنا حالم يشعر أنه يشارك البرج المحصن سره نحب أن نفتحه ونحب أيضاً أن نفتح قلوبنا”(52).
والفضاء في كثير من الأعمال الجيدة يلعب دور البطولة فيكون عاملا أساسيا في إنتاج المعني وطرح الرؤى كما تتجادل بنيته الفضائية مع جميع البنى الأخرى في السرد “يأخذ ويعطي، وهو في حالة أخذ وعطاء مستمرة، طوال سير المواكب السردية فلا مكان للمكان العاطل عن العامل… إن الأماكن مهما صغرت ومهما كبرت… تظل في الرواية الجيدة مجموعة من المفاتيح الكبيرة والصغيرة التي تساعد على فك جزء كبير من مغاليق النص الروائي. كيف لا، والمكان في الرواية، يعتبر ملعب الأحداث والشخصيات الروائية. وكلما أجيد بناؤه وتجهيزه، استطاعت الأحداث والشخصيات أن تؤدي دورها بشكل أفضل”(53).
إن الــذي يجــب النظر إليــه بعــين الاعتبار في الوصف القصصي الغرائبي – في هذا الخبر – أن هذا المكان يقع في بلاد اليونان، وبطل القصة يذهب إلي هنالك – مرورا بمصر – للبحث عن كنز نفيس سمع به بصورة أسطورية… هل يعكس ذلك الرغبة فى التواصل مع الحضارة اليونانية المتشعبة وريثة الحضارة المصرية القديمة التي نهض العرب بالترجمة عنها في العصر العباسي، فبهرتهم بمعارفها وعلومها الغزيرة؟!
ومن ثم فإن هذه اادراسة تؤكد مقولة أن التراث العربى زاخر بالنصوص النثرية التى تشتمل على فنون وعناصر قصصية مختلفة، تمثل الأصول الأولى للقصة العربية الحديثة، وأن القاص أو الروائى العربى قد أجاد فى إحكام بنيته السردية على نحو يحقق الإفادة والتأثير.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: