نادر والكمانجا
بقلم: صلاح المكاوي
دلفَ نادر إلى منزله بعد يوم دراسيٍّ شاق في الجامعة، يرتقي درجَ السلم بتؤدةٍ وأناة، وإذْ به يسمع صوتًا غريبًا لم يألفه، ونغماتٍ غير معهودة تخرج من منزلهم!
ياترى ماهذا؟! ربما كان من عند الجيران؟ لايدري.
وما إن اقترب من بابهم إلا ووجد هذا الصوت الممزوج بالموسيقى يخرج منه!
(جميل جمال ملوش مثال ولا في الخيال…. ) يا إلهي! ماهذا؟!
إنه المنزل الروحاني العامر الذي طالما ضجّت جنباتٌه بالقرآن الكريم، والذكر والتسابيح ودروس العلم، أتشذُّ منه تلك الأصوات؟ قالها نادر متعجبا!
قطع تلك التساؤلات وفتح الباب مُتعجّلًا؛ ليجدَ خالَه قد انطلقت تلك الكلمات من حنجرته يصحبها نغمات (الكمانجا) الخاصة به مُجاملًا بها أخته أم نادر، وهي في حيرة من أمرها، إنه أخوها ويحسبُ بذلك أنه يسعدها.
ماهذا ياخالي؟ موسيقا في بيتنا.. أنغام وأوتار؟!
لالا.. لاتفعل، كُف عن ذلك، ولكن الخال استمر في غنائه، ولم يُعر نادرًا اهتماما، فغضب نادر واحمرّت وجنتاه وحذّر خاله ثانية إلا أنه لم يرتدع، فانتزع نادر منه (الكمانجا) وأطاح بها من النافذة لترتطمَ بالشارع فتحطمت، وتقطعت أوتارها وصمتت إلى الأبد أنغامها، وشرع يُفهم خاله، ولكنه زمجر وغادر منزل أخته، يصبُّ جامَ غضبه على نادرٍ متوعدًا إياه!
لاتحزني يا أمي؛ ما فعلتُ ذلك إلا غضبةً لله، فأنا لا أحب أن يُعصى الله في بيتنا، يقولها نادر مُقبّلا رأس أمه، فبادرته قائلة:
هوّن عليك يابني، فأنا معك في كل ماتقول، ولكن ماذا أفعل؟ إنه أخي!
تمر الأيام والشهور ومازال الخالُ مقاطعًا منزل نادر، لايصلُ أخته وشعر بأنه خرجَ مطرودًا مُهانا، بيد أنه انتابه مرضٌ شديد ألزمه الفراش وزادت عليه النفقات، فتحركت فطرةُ نادر النقيّة وشعر تجاهه بالمسئولية، إنه خالى وتلك صلةُ رحم، أنا لم أطرده لشخصه، وإنما طردتُ (الكمانجا) والمعاصي، ولكن ماذا أفعل، ليته تفهّم الأمر!
وهمّت أم نادر بوصل أخيها الذي قاطعها؛ فمرضه الذي داهمه لايحتمل الانتظار.
أخرج نادر مبلغًا من المال كان قد ادّخره، ولكنه آثر خاله على نفسَه، فدهشت أمه من تصرفه هذا، فأجلَى لها حقيقة الأمر، وكيف أنه نحَّى اختلافه مع خاله جانبا، وخفقَ قلبُه الشَّفوق لوصله وتقديم يد العون له.
لقد فرّق نادر بين (صبغة الله)؛ أي أن يكون مصبوغًا بشرع الله والدين، يخاف الله وينكر المعصية بقدر مايستطيع حتى لاتغرق السفينة، وبين (فطرة الله) بحب الخير والحق والرحمة والإنسانية، وأخذ بقاعدة (.. لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) وأنه لامحاباة في حقوق الله حتى لو كان أقرب الناس؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بنت محمد، ولم يقل بنت رسول الله)!
أمَا وقد تحرّكت لدي نادر الفطرة، فكان لزامًا عليه أن يصلَ خاله مهما كلّفه الأمر، حتى وإن نهرَه وطرده، مع ثباته على مبادئه وصبغة الشرع الذى اصطبغ بها.
اصطحبته أمه مُفاخرةً به، تكاد رأسها تطالُ السماء زهوًا وإعجابًا،
وصلا إلى المنزل، تخلّف بعيدًا وانتحى مكانًا قصيًّا خشية أن يطردَه خالُه، يحدّث نفسه ويُمنّيها بانتهاء المهمة على خير!
دخلت أم نادر تصل أخاها، تربتُ على كتفه وتمسح على رأسه داعية له بالشفاء، أعطته مبلغا وأخبرته أنه من نادر؛ فتعجب وأخذه الدَّهش وحار في أمر هذا الشاب العجيب المُعتدّ برأيه، المدافع عن عقيدته وثوابت دينه!
حدث لديه صراعٌ داخليٌّ وتباين للرؤى، وتيقّن أن نادرًا كان على حق، فأشار إليه بالاقتراب، فانكبَّ نادرٌ على خاله مقبلًا رأسه ويديه، وانخرط الخالُ في بكاءٍ شديد، وتذكر معصيته ويوم الوعيد، بكى بكاءً غسلَ أدرانًا كانت عالقةً بقلبه، فصفت له الرؤية وتجلّت الأمور، وماذلك إلا بتوفيق من الله “عزَّ وجل”.
عاد نادرٌ يحمد الله على آلائه، يُطلقُ بصره في كونه وفضائه، شاكرًا أنعمَه أن جعله في صفِّ الحق وأيده لنصرته.
تتوالى طرقاتٌ على باب نادر، يفتح ليظهر خاله مشرق الجبين وضيء المُحيّا وقد عافاه الله من المرض ومن مخالفة شرعه، تصطفُّ خلفه بناتُه مُحجباتٍ مُحتشماتٍ وقد كنَّ قبل سافرات؛ فسجد نادر شكرًا لله أن كان سببًا في هداية أسرة بأكملها، وأن جعل الله لكلماته صدىً في القلوب؛ فرفع يديه وشرعَ يدعو الله:
اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك وطاعتك!