نادر والحلال
نادر والحلال
بقلم: صلاح المكاوي
دُعي نادر ذات يوم من قِبل أصدقائه لتناول الطعام، وما كان له أن يرفضَ فهو المُلبِّي لا عن حاجة، وإنما امتثالا لقول النبي “صلى الله عليه وسلم”:
“ائْتُوا الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ”، فهو يزورهم كل فترة للدعوة إلى الله قولا وعملا مصداقا لقوله تعالى: ” إن الذين آمنوا وعملو…”، وقوله تعالى:” قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني..”
إنهم صحبة طيبة، ولفيفٌ وَدودٌ على اختلاف مشاربهم؛ فمنهم العالم والطبيب، والمهندس والعامل، جمَعهم الحبُّ في الله وأخوّة الدين.
مُدَّت سفرةُ الطعام وعليها ما لذ وطاب من صنوفه، انتظم الجميع وهمُّوا بتناول الطعام، اعتدل نادر في جلسته وقال: باسم الله، وهمَّ بتناول أحد أرغفة الخبز، وإذ به يلسعُه وكأنه قد خرج من التنّور على الفور!
ما هذا؟! إن الخبزَ باردٌ والرفقاء يلتهمونه بسهولة ويسر، فمابال نادر إذن؟!
يكرر ثانية فيلسعُه الخبز وكأنه جمرة.. يا إلهي!
فانتفض نادر قائلا:
إن هذا الخبز مسلوب، فقالوا: مسلوب!
مامعنى هذا؟ فقال لهم: أعني أنه “مسرووق”
فأصابهم الوجومُ واعتراهم الدَّهش وغشيهم الصمتُ وكأن على رؤوسهم الطير!
ماذا تقول، وكيف ذلك؟!
فأصرَّ نادر على يقينه بسرقة الخبز، أو أنه لم يُدفع ثمنه، فتلفَّتوا لبعضهم البعض، وكأن كل واحد منهم ينفي التهمةَ عن نفسه ويُلصقها بالآخر!
انتحى نادرٌ بصاحب الدعوة وكان مهندسًا مرموقا، وعندما ألحّ عليه نادر أقرَّ بفعلته قائلا: تلك عادةٌ عندي منذ زمن، ولم أستطع التخلص منها، وأخذ يقصُّ له كيف أنه يلتقطُ بعض الخبز أحيانا، وأحيانا أخرى بعض علب البيبسي والشيكولاته، وذلك من بقّالة كبيرة مشهورة، ويقول في نفسه: البقالة كبيرة وصاحبها ثريّ ولن يؤثر ذلك عليه، وأكدَّ قولَه ذلك صاحبٌ له بأنه مُعتادٌ على ذلك منذ زمن؛ فذُهلوا جميعًا قائلين: ولكن وكيف عرفت ذلك؟! كنا نظن أن عصر هذه الكرامات قد انتهى منذ زمن!
فقال نادر: أولا نسجدُ لله شكرًا على أن وهبنا تلك الكرامة واختصّ أحدَنا بها؛ ليرشدنا إلى الطريق، وسبقهم نادر إلى السجود ليدلّهم على الله، لا على نفسه التى لم يلهث وراء حظِّها البتّه؛ حتى تُقام عليهم الحُجَّة، وقال لهم:
“هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ”
فسجدو جميعا وبكوا بكاءً مريرًا وارتعدت فرائصهم من هول الموقف!
كانت دعوتُه لهم بتلك “الفتوح” أوقعَ في النفس، وأبلغ تأثيرًا من المحاضرات الإنشائية والألفاظ المدبَّجة، والعبارات المُنمَّقة.
وعلى الفور تذكّر أحدُهم كرامةً أخرى حدثت مع نادر قبل ذلك، وهي أن وصلةً للمياه كانت قد أصابها العطبُ في البناية التي يسكنون فيها، فتمَّ تكسيرها ورفعها تماما؛ وذلك لتغيير مسارها وإصلاحها، وبقى الصنبورُ معزولًا عن وصلته التى رُفعت عنه، فانكبَّ عليه نادر دون علمه بما حدث ليغسل يديه ويتوضأ، فأجادَ له الصنبورُ بالماء غزيرًا، ولكن من أين جاء الصنبور بالماء؟!
سبحان الله! ما ذلك إلا من عند الله؛ لنشر الدين وتثبيت اليقين، فأيقن الصَّحبُ أنهم في معيّة رجل مُبارك قد أيَّده الله بتلك الكرامات، فكيف تقبلُ بطنُه أكلَ الحرام، وكيف سيكون مستجاب الدعاء، وكيف سيحاضرهم وتأتيه الفتوحات والإشراقات؟!
وتذكّر نادرٌ ساعتها موقف سيدنا أبي بكر حينما شرب حليبًا من كهانة لغلامٍ عنده، والحكم الفقهي في ذلك أنه لا شيء عليه؛ لكونه لايعلم ولكنه الورَع، فتقيّأ كل ما في بطنه خشيةَ أن ينطفأ مِصباحٌ من مصابيح القلب بشُبهة من الشبهات!
واستحضر الحديثَ الذي في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك »
وعلى الفور اصطحب نادر المهندس إلى صاحب البقَّالة مُنكَّسي الرؤوس قائلين له: ( نحن لصوص ) فتعجب الرجل من قالتهم تلك، قائلا: كيف وسمتُكم لايشي بذلك؟! فأنت ذو لحية طويلة وذاك ذو هندام أنيق! فسردوا له القصة، فذُهل وتعجب من تلك الكرامة التي اختصّ الله بها نادر وبسببها ساقاهم الله إليه لتصحيح المسار والعودة إلى العزيز الغفار.
تم حساب الأشياء التي سُلبت وأعطوه ثمنها ألف ريال، فرفض الرجل أخْذها، ولكنهم أصروا على ردِّ المظالم إلى أهلها ، فأخذ صاحبُ البقّالة ستمائة ريال فقط، وسامح في الباقى، ثم قفلوا راجعين يبكي المهندس على مابدرَ منه تغسله دموعُ التوبة، وتزلزلُ أركانَه قرعاتُ الندم والأوبة، وعاهد الله ألا يعود، وقد حباه الله هذا الصديق الودود الذي أخذ بيده إلى طريق الحق والنور بعد لُججِ الحيفِ والجُور؛ فالضلال المبين لابد أن يُقرع بالحق المبين،
وتلك كانت علامات على الطريق ويدٌ امتدت لغريق.
فأطِب مطعمكَ تكن مستجاب الدعاء، هذا ومازال نادر يلهجُ لسانه بذكر الله وشكره على كريم مِننه ووافر عطائه قائلا: اللهم لك الحمد على النعماء، ونعوذ بك اللهم من السلب بعد العطاء!