مُلَخَّصُ عَالَمِيَّةِ الحَجِّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

د: أَحْمَدُ إِبْرَاهِيمُ مَرْعُوه
مِنْ خِلَالِ الْبَحْثِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وُجِدَ أَنَّ عَالَمِيَّةَ الْحَجِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَرْحَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، بَلْ هِي فِي كُلِّ الْمَرَاحِلِ الَّتِي بَدَأَتْ مُنْذُ حَجِّ الْمَلَائِكَةِ، وَحَجِّ الْأَنْبِيَاءِ بِأُمَمِهِمْ، وَالْمُبْتَدِئِينَ بِنَبِيِّ اللهِ آدَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْمُنْتَهِينَ بِحَجِّ نَبِيِّ اللهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِأَعْدَادٍ مَهُولَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالَّتِي أَهَّلَتِ النَّاسَ لِأَنْ يَحُجُّوا فِي مُؤْتَمَرٍ عَالَمِيٍّ، أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْتَمَرِ الْعَالَمِيِّ الْأَوَّلِ لِحَجِّةِ نَبِيِّ اللهِ إِبْرَاهِيمَ.
لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تُعَدَّ حَجَّةُ الْوَدَاعِ هِي الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاحِلِ عَالَمِيَّةِ الْحَجِّ بَعْدَ الْمَرْحَلَةِ الْأوْلَى الَّتِي تَمَثَّلَتْ فِي حَجَّةِ نَبِيِّ اللهِ إِبْرَاهِيمَ ( ).
وَلِأَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الدَّلَائِلِ الَّتِي أَكَّدَتِ الْعَالَمِيَّةَ بِسَبَبِ ظُهورِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ الْكَبِيرِ، وَفِي زَمَنٍ بِعِيدٍ عَنْ زَمَنِ نَبِيِّ اللهِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي آخِرِ الْأُمَمِ، وَتَحْتَ إِمْرَةِ آخِرِ نَبِيٍّ ﷺ، بِخِلَاَفِ الْبُعْدِ الطَّوِيلِ تَارِيخِيًّا مِنْ وَقْتِهَا إِلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.
وَلِأَنَّهَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الْأوْلَى وَالْأَخِيرَةُ لِلنَّبِيِّ الْأَخِيرِ فِي سِلْسلَةِ الْأَنْبِيَاءِ: عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَهُوَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ، الَّذِي خَطَبَ فِيهَا خُطْبَةً عَظِيمَةً كَانَتْ دُسْتُورًا لِحَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِضَمَانِ حقوقِ النَّاسِ وَالْعِبَادِ، كَمَا أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَجِّ وَأَدَاءَ الْمَنَاسِكِ، وَالَّتِي تُمَثِّلُ السُّنَّةَ التَّقْريرِيَّةَ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا سَتَبْقَى فِيهِمْ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِنِهَايَةِ الْحَجِّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَالْعَالَمِيَّةَ تَكْمُنُ فِي أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالَّتِي سَتَظْهَرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ بِمَشِيئَةِ اللهِ. أَمَّا الَّتِي لَا تَظْهَرُ فِيهِ، فَرُبَّمَا يُؤَجِّلُهَا اللهُ لِيَكْتَشِفَهَا فَرْدٌ آخَرُ فِي هَذَا الزَّمَنِ، أَوْ فِي زَمَنٍ لَاحِقٍ حَتَّى تُسْتَمَرَّ عَالَمِيَّةُ الْحَجِّ فِي عَالَمِيَّتِهَا، وَكَيْ تَتَوَالَى فِي مَسِيرَتِهَا وَاسْتِمْرَارِيَّتِهَا، وَبِذَا تَكُونُ هِي الْعَالَمِيَّةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا. لِذَا تَتَضِحٌ عَالَمِيًةُ فِى الآتِي:
ـ عَالَمِيَّةُ الحَجِّ كَانَتْ وَمَا زَالَتْ فِي تَخْلِيِدِ كَلِمَةِ الحَجِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ والسُنَةِ النَبَوِيَةِ: والَّتِي خُلِّدَتْ بِذِكْرِهَا فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، والَّذِي يُمَثِّلُ آخِرَ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ لِلبَشَرِيَّةِ مُنْذُ أَنْ بُعِثَ بِهِ آخِرُ نَبِيٍّ حَجَّ حَجَّةَ الوَدَاعِ لِتَكْتَمِلَ سِلْسِلَةُ حَجِّ الأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَدَأَتْ بِنَبِيِّ اللهِ وَ أَوَّلِ الْخَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَاَمُ، ثُمَّ نَبِيِّ اللهِ إِدْرِيسَ، وَشِيثَ، وَنُوحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَاَمُ، إِلَى أَنْ وَصَلَتْ إِلَى أَبِي الْأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَاَمُ، فَكَانَ أَمْرُ اللهِ بِالْأَذَانِ وَالتَّبْلِيغِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِتَكُونَ مِنْ نَابِعِ شُمُولِيَّةِ الدَّعْوَةِ الْعَالَمِيَّةِ لِلْفَرِيضَةِ الْوَاجِبَةِ، وَالَّتِي جَاءَتْ (بِلَفْظِ النَّاسِ) وَمِنْ كُلِّ مَكَانٍ فِي الْعَالَمِ، وَالَّذِي رُمِزَ لَهُ بِالْفَجِّ الْعَمِيقِ، أَيِ الْبَعيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].
ـ وَعَلِمَ النَاسُ مِنَ القرآنِ الكَرِيمِ اَنَ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ البَيْتَ لِلنَاسِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿٩٦﴾فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿٩٧﴾) [آل عمران: 96، 97].
ـ وَعَلِمَ النَاسُ مِنَ القرآنِ الكَرِيمِ أَنَ اللهَ بَوَّأَهُ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَاَمُ لَمَّا تَهَدَّمَ وَبَقِيَتْ قَوَاعِدُهُ وَطُمِسَتْ فَرَفَعَهَا وَأَعَادَ بنَاءَهَا، لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بيتكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم: 37]، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٢٧﴾) [البقرة: 127]. قَالَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ، وَلُبْنَانَ، وَطُورِ زَيْتَا، وَالجُودِيِّ، وَحِرَاءَ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوَاعَدَهُ مِنْ حِرَاءَ.
ـ وَعَلِمَ النَاسُ مِنَ السُنَةِ النَبَوِيَةِ ـ وَهِي وَحْيٌ يُوحَى إِلىَ نَبِيِهِ ﷺ اَنَ اللهَ تَعَالَى بَوَّأَ لِآدَمَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قَبْلَ ذَلِكَ، وعَلِمَ النَاسُ مِنَ السُنةِ النَبَوِيَةِ أَنَ الأَمْرَ الَّذِي يُؤَكِّدُ وُجُودَ البَيْتِ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنٍ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَلَامُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ التَّثْنِيَةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دًعَا بِهَؤلاءِ الكَلِمَاتِ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37] ( )، وَهَذَا بعدمَا تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ وَأَمَّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَاَمُ فِي هَذَا الوَادِي “غَيْرِ ذِي زَرْعٍ بِمَكَّةَ” وَاِسْتِقْبَالُهُ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ وَقَوْلُهُ: ﴿عِنْدَ بيتكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37]. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ البَيْتِ الحَرَامِ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَهَدَّمَ وَبَقِيَتْ قَوَاعِدُهُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِيمَا بَعْدُ)( ).
ـ وَبِذَا يَكُونُ الْحَجُّ وَثِيقَةً دِينِيَّةً وَتَارِيخِيَّةً، لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ لِسَيِدِنَا إِبرَاهِمَ مُنْذُ زَمِنٍ بَعِيدٍ، ولَمْ يَأْمَرْ بِهِ اللهُ تَعَالَى أَيَّ نَبِيٍّ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَاَمُ، وَلَا بَعْدَهُ.