من حديث السيرة .. فَعَالُ الكبار وفُهُومُ الصغار

شيخ العربية الأستاذ الدكتور سعد مصلوح

لنا – أنا والصديق العزيز جابر عصفور – ابنٌ حبيبٌ وتلميذٌ مشتركٌ ؛ هو من أفاضل أهل الكويت ، وأحسبه إن شاء الله – ولا أزكيه على ربه – قريبا من الله محبا لله ولرسوله ؛ وإني لأتبرك بصحبته ، وأسأل الله أن ينفعني بها دنيا ودينا.
وكان أن سجل هذا الابن العزيز رسالته لدرجة الدكتوراه بإشراف جابر عصفور . ولما كانت الكويت هي موضع التقاء الساكنين ؛ أنا وتلميذنا = وكانت صلتي به وبمشرفه الجليل عامرة بالود والمحبة = أذن له المشرف أن يعود في أمر رسالته إلي ، وفوضني في مباشرة العمل معه ؛ فعكفنا على العمل معا ؛ هو يكتب وأنا أقرأ وأنصح ، وأصوب وأصحح ، وكنا نعدل أو نبدل معا حين يقتضي الأمر حتى نَجِزّ العمل ونضج فيما بيننا ، فصار غاية المرام ومنية المتمني. والطريف في الأمر أن الصديق الكريم جابر عصفور دعاني لمشاركته مناقشة الرسالة ، وكان من رأيه أني أدرى الناس بها ، وأن مثل هذه المشاركة مفيدة للطالب ورسالته ، وكان من الرائع والجميل أن الرجل – وهو العالم المقدور في مجال اختصاصه وفي السياق الثقافي والأكاديمي العربي. – لم يجد حرجا أو غضاضة في أن يعالن الحاضرين في الجلسة – وعلى رؤوس الأشهاد – بما كان ، وبأنني مشرف أصيل على العمل وإن كنت أجلس من الطالب مجلس المناقِش. ولأن “جابر” عارف بحقيقة العلم وطبيعة المعرفة لم ير موردا للمعاندة أو التناقض بين الأمرين. أما أنا فلم أخذله في مناقشتي ؛ إذ ناقشت العمل وكأني أراه أول مرة ، وافترَّت المناقشة عن كثير مما كان جديدا عليّ وعلى الطالب ، ذلك أن علاقة المشرف بالطالب في حسباني ليست علاقة القائد بالجندي ، ولا الرئيس بالمرؤوس ، ولا القيِّم بالتابع ولكنها علاقة بين عقلين ورؤيتين وتكوينين متمايزين ، وحَرِيٌّ بالأستاذ أن يكون عمله في بنوة العقل من جنس عمله في بنوة النسب . ولأن العَرْضَة َالأخيرة للرسالة تأهبًا لجلسة المناقشة ليست كسائر القراءات المتبعضة المشعثة في جلسات المتابعات ؛ إذ هي قراءة لجلسة يحكمها وجوب تكامل العمل ، واستدراك الفوائت ، والرؤية الكلية التي يواجه بها العمل جمهور قارئيه.
ثم إن ذلك كان دأبي في كثيرمن المناقشات التي عقدت لرسائل كنت المشرف عليها ، وأذكر من بينها الرسالة التي تقدم بها الابن العزيز والعالم الجليل إبراهيم الدسوقي عبد العزيز الأستاذ بدار العلوم لنيل درجة الماجستير ؛ فقد فوجئ يومها مني بسيل من الملاحظ ما كان في حسبانه ولا حسباني ؛ حتى قال لي ضاحكا حين التقينا عقيب المناقشة : ” هو أنا كنت ناقصك تناقشني يا دكتور سعد ؟ “
من هنا تظهر الموائز وتتجلى الفروق. ذلكم لمن فَقِهَ حقيقة العلم ، وهي أمور لا تتأتى دقائقها إلا للكبار ، فلا غَرْوَى أن تفوت ذَرْعَ فُهُومِ الصغار.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: