من إبداع شباب الألسن – من سرق البطة؟ بقلم: نورهان رجب

من إبداع شباب الألسن - من سرق البطة؟ بقلم: نورهان رجب

تقديم: د. نهى مختار

أخذتُ أوراق (مسابقة الإبداع) لنبدأ مرحلة التحكيم وتحديد المراكز الفائزة، فإذا ببطة صفراء صغيرة جميلة ملتصقة بغلاف بلاستيكي شفاف لحفظ الورق، دُهشتُ لأن هذه هي المرة الأولى التي أجد فيها لعبة بطة متشبثة بالورق بشكل فني ومحكم، نظرت بالداخل لأجد مكتوبا بخط مميز: (من سرق البطة، بقلم نورهان رجب عبد الحميد، قسم اللغة الروسية، فرع القصة القصيرة)، قلت في نفسي، يبدو أني أمام ورقة إبداعية مميزة، تُرى ما سر هذه البطة الغريبة؟

الجميل أن البطة الآن معي، قد أهدتها لي المبدعة الصغيرة، أنظر إليها وهي على الرف، وأقول: لقد أهدت لي “نورهان” بطتها الصفراء الأثيرة، لكني لم أسرقها كما فعل الطرف الظالم المعتدي في هذه القصة القصيرة الطويلة التي لا تنتهي!

لقد أهدتنا قصة تخاطب وجعا حيا بداخلنا ينزف بغزارة هذه الأيام، بأسلوب شائق وعرض جميل..

كان ذلك في كلية الألسن في القاهرة في حضن قسم اللغة العربية الذي يرعى مواهب الطلاب من الأقسام العلمية كافة.

كتبت نورهان:

اسمي جهاد وأنا طالب أدرس علوم الحاسوب والبرمجيات، عمري عشرون عاما، وقد اختفت بطتي منذ خمس وسبعين ساعة وما زالت متغيبة إلى الآن….

بدأ كل شيء قبل أربعة أيام حين جاء لزيارتي بعض الأصدقاء، لنتناول معا الغداء ونمرح قليلا قبل أن نبدأ المذاكرة معا استعدادا لامتحانات نهاية الفصل الدراسي.

أعدت أمي طعام الغداء استعدادا لاستقبال الأصدقاء، وأنا انشغلت بترتيب المنزل، والأكيد أن بطتي الصفراء كانت مستقرة بجانب حاسوبي المحمول، وإن كنت تتساءل عن ماهية هذه البطة فدعني أخبرك الآتي، بطتي هي بطة مصنوعة من البلاستيك المقوى ذات لون أصفر لامع مع بعض التفاصيل البيضاء، اشتريتها بعد دخولي مباشرة إلى الجامعة أي منذ عامين، ومنذ ذلك الوقت لم تفارقني أبدا، فقد كانت دائما تستقر بجانب الحاسوب لأني كنت أناقش معها عددا من الأكواد المستخدمة في صناعة عدد من المهام على الحاسوب، كنت أراجع معها الأكواد التي لا تعمل بكفاءة حتي أجد الخطأ الصياغي بها وبعدها أشكر البطة لاستماعها لي، وأنصرف لتعديل الكود وأكمل أعمالي، مرت سنتان على هذا الحال، البطة بجانب الحاسوب تستمع لي في السراء والضراء، تشاركني أكوادي الناجحة والعاثرة، حتى جاء هذا اليوم الذي اختفت فيه البطة بلا أي أمارات تدل علي عودتها، وكان يوم اختفائها عشية قدوم الأصدقاء.

جاء أصدقائي تقريبا عند الثالثة عصرا، دخلوا إلى المنزل محدثين صخبهم المعتاد، وما لم يكن معتادا هو هذا الشاب بينهم الذي أخبروني أنهم التقوا به في المتجر قبل قدومهم إلي وللمصادفة كان أيضا يدرس علوم الحاسوب هو الآخر و بعد التحدث لفترة عرض عليهم مساعدتهم في المذاكرة وبالطبع وافقوا وانتهي بهم الحال يحضرونه معهم إلي المنزل، الذي يدور بذهنك الآن عزيز القارئ هو” كيف يأمن امرؤ أحدا لم يره من قبل حد إدخاله منزله والترحيب به والسماح له بالبقاء أيضا؟ ألم تحذرهم أمهاتهم يوما من الغرباء؟”

دعني أجب سؤالك، كان للفتى ملامح بريئة ونظرات هادئة لا ينعكس من خلالها أي نوايا سيئة وحوله هالة الطالب المثالي الذي يحتل المراكز الأولى كل عام دراسي، فتوسموا فيه خيرا ووافقوا على عرضه لتقديم المساعدة، وبالفعل تعرفت عليه وأخبرته كم أنا مسرور لرؤيته وبعدها دعوته إلى الطعام الذي كان لذيذا، طعام الأمهات ودفء المنزل لا يعوض يا عزيزي.

بعد الطعام دخلنا جميعا إلي غرفتي، أنا و أصدقائي وهذا الغريب، بالطبع لم أنجح في الخلاص من دعاباتهم حول بطتي العزيزة ومدى كون ارتباطي بها غريبا غير مبرر، كان هذا الفتى يجلس في هدوء مهيب يطالعنا في صمت وعلى وجهه ابتسامة هادئة يحرك بصره بين أرجاء الغرفة إلي أن استقرت عينه على البطة، مدحها وأثنى عليها وعلى جمال لونها الأصفر، ثم نصحنا بأن نباشر المذاكرة فهكذا سيداهمنا الوقت ولن نحقق ما قدمنا لإنجازه، وبالفعل باشرنا بالعمل.

مرت الساعات التالية في سكون يقطعه بين الحين والآخر سؤال من هذا وجواب من آخر، إلى أن قررنا أنه يكفي هذا القدر لهذا اليوم، لقد قطعنا شوطا لا بأس به بمساعدة هذا الفتي الذي أعاننا في بعض المشاكل التي واجهتنا، هم الأصدقاء بتوديعي وتحديد موعد آخر للقاء قريب وانصرف الجميع وانصرف الغريب معهم.

بعد توديعهم تهالكت أنا إلى أقرب مقعد لأرتاح قليلا من جلسة المكتب التي تؤلم الظهر، وغفوت حيث أنا.

في الصباح التالي استيقظت علي صوت أمي تسألني النهوض والتوجه إلى إكمال النوم في غرفتي، وبالفعل نهضت متوجها إلي غرفتي و بين ترنح النوم واستقامة اليقظة فتحت باب الغرفة وألقيت جسدي علي السرير وطالعت سقف الغرفة قليلا، ثم وجهت نظري إلى المكتب باحثا بنظري عن موضع البطة وهنا كانت المفاجأة!

اختفت البطة دون أي أثر، نهضت فزعا من سريري لم يعد للنوم أثر الآن أنا في كامل وعيي ومستيقظ، البطة الخاصة بي ليست على المكتب بجوار الحاسوب بل ليس لها اي أثر علي المكتب من الأساس!

“اهدأ يا فتي ربما هي هنا أو هناك أو ربما قام أحد أصدقائك بتغيير موضعها ليعبث معك قليلا”

رددت هذه الكلمات وبعدها بدأت بتمشيط الغرفة كليا، قلبت كل شيء رأسا علي عقب لكن دون جدوى، قلت إذا أبحث في باقي أرجاء المنزل وكان البحث أيضا دون جدوى، و لم أجد مفرا من أن أهاتف أصدقائي واحدا واحدا، أسأله أن يوقف عبثه ومزاحه الثقيل هذا و يعيد البطة فقد اكتفيت …

– أحمد:  ألو

– جهاد: صباح الخير يا أحمد آسف على إزعاجك في هذا الصباح الباكر لكن هل أخدت بطتي بالأمس وأنت تغادر؟

– أحمد: من يتحدث الآن في هذا الصباح؟

– جهاد: أحمد، إنه أنا جهاد

– أحمد: اه جهاد لماذا تتصل مبكرا هكذا؟

– جهاد: بطتي مفقودة من الصباح ولا أجد لها أثرا في المنزل كله.

-أحمد: أتمازحني أم ماذا تفعل بالاتصال بي باكرا هكذا للسؤال عن هذه اللعبة.

-جهاد: والله لا أمزح البطة مختفية وليس لها أثر

-أحمد: إذا ابحث جيدا، سلام.

وأغلق الخط، وعلى هذا النسق تماما سارت مكالماتي الأربع التالية لا أحد منهم يعرف مكانها، الجميع ينفي عن نفسه المزاح و أخذها معه، إذًا إذا لم يكن واحد منهم من أخذ البطة  فقد تم سرقة البطة!، تسلل أحدهم إلى المنزل و سرق  البطة!

-الأم: يا فتي لازلت تجيد المزاح، أتخبرني أن اللص ترك المنزل كله وسرق بطة لعبة! أعزك الله يا ولدي وحفظ عقلك اغسل وجهك وتعالى لتناول الفطور وبعدها كرر البحث عنها.

كان هذا رد أمي حين أخبرتها بالأمر، تناولت الفطور وأعدت البحث مرة أخرى ولكن هذه المرة كانت أمي تبحث معي   وكانت النتيجة ذاتها لا أثر للبطة بالمنزل.

– الأم: استغفر الله يا بني واقرأ بعض آيات القران يومان وتعود البطة.

– جهاد: منذ متى والبط اللعبة يذهب ويعود يا أماه!

 

مرت ثلاثة أيام والحال ذاته، وخلال الأيام الثلاثة لم أترك بيت صديق إلا و زرته باحثا عن البطة، وسط السخرية والضحكات.

– أيمن: أظنك يا جهاد أعطيت الأمر أكبر من حجمه إنها مجرد بطة بلاستيكية اشترِ غيرها.

– جهاد: لكني لا أريد غيرها أريدها هي ذاتها.

– أيمن: لا تكن طفوليا هكذا وانهض معنا نذهب لنذاكر عند الفتى الذي التقينا به سابقا.

– جهاد: من الفتي الذي التقينا به سابقا؟

– أيمن: جهاد هل أمر البطة أنساك الفتى الذي ساعدنا بالمذاكرة عندما كنا عندك؟! هيا انهض.

– جهاد: الفتى الذي جاء معكم!! كيف لم يخطر ببالي؟ ربما هو … ربما هو من سرق البطة.

– أيمن: كفاك هراء، لما قد يسرق فتى مثله بطتك السخيفة؟

– جهاد: ربما أعجبته!

– أيمن: الآن نذهب إليه وترى كم أنك على خطأ.

اجتمعنا أنا والبقية وتحركنا إلى العنوان الذي أعطاهم الفتى إياه بالفعل وصلنا وألقينا التحية ثم دخلنا المنزل على استحياء، لم يكرمنا الفتى حتى بشربة ماء!، لكن لا بأس لسنا هنا للضيافة، ثم تحركنا لندخل غرفته، ثم إنها بطتي!

هرعت إلي المكتب الذي كانت موضوعة عليه أطالعها في توجس، إنها هي، تملك ذات اللون الأصفر والبقعة البنية  على جناحها الأيمن، هذه البقعة كانت نتيجة أني قربت منها إحدى الشمعات ذات مرة دون أن أدرك ذلك.

– جهاد: إنها بطتي أيها اللص كيف تسمح لنفسك بسرقتها من بيت أكرمك؟

– أحمد: اهدأ يا جهاد ربما تداخل عليك الأمر.

– أيمن: لا تكن أهوجا هل بطتك هي الوحيدة بالعالم؟ بالطبع هناك غيرها الكثير.

– جهاد: بالطبع هناك غيرها لكن انظروا، ذات البقعة الناتجة عن الحرق على جناحها الأيمن.

– الفتى الغريب: أعد البطة إلى موضعها ولا تعبث بأغراض الغير أيها الطفل الباكي.

وهنا خرج كل شيء عن السيطرة اندفعت إليه وأمسكته من ياقته وهممت بتزيين وجهه ببعض اللكمات والتي لم يكن حتى يقاومها، حتى منعني الباقون عن إكمال ما كنت أفعله، وبعدها نهض في هدوء وأعاد هندام ملابسه ثم أخذ هاتفه و..

– الفتى الغريب: ألو، قسم الشرطة؟

– نعم الشرطة معك كيف نساعدك؟

– الفتى الغريب: هناك أحد اقتحم بيتي وهم بسرقة أشيائي وأوسعني ضربا.

تجمد الجميع من هول الصدمة، أي اقتحام هذا وأي سرقة! أنت السارق هنا، سرعان ما تم اقتيادي إلى قسم الشرطة وجلسنا أنا وهو وجها لوجه أمام ضابط الشرطة يسألنا عما حدث، قصصت ما حدث عليه منذ الزيارة وكيف اختفت البطة وكيف وجدتها لديه على مكتبه بعد عدة أيام.

– الفتى الغريب: هل انتهيت؟

– جهاد: نعم أيها اللص الحقير

– الفتى الغريب: أيها الضابط هاك نظر، هذه صورة لي وأنا أشتري هذه اللعبة من المتجر منذ عامين التقطها صديق لي من باب الدعابة وكان معي وقتها.

طالعت الصورة أنا الآخر التي يظهر لأي أحد عاقل أنها صورة مزورة تزويرا واضحا.

– جهاد: هذه الصورة مزورة بشكل واضح أيها الضابط.

– الضابط: اصمت أنت، قلت إن صديقا كان معك وقت الشراء لنتصل به ليدلي بشهادته

– جهاد: هو صديقه بالطبع سيقف بصفه أيها الضابط!

– الضابط: أخبرتك أن تصمت أنت.

مرت الساعات التالية ولا أزال غير مستوعب لما يجري، جاء صديق الفتى وأكد روايته، وتم الأخذ بالصورة المزورة على أنها حقيقة وأصدقائي وأستحي أن أقول أصدقائي لا أثر لهم تماما، ثبتت تهمة الاعتداء بالضرب باحترافية وظهرت أنا لصا ومعتديا بالضرب على فتى بريء، أيها القوم منذ متى يسرق المرء ما هو له، إنها بطتي كل شيء يقول ذلك لكن هيهات.

تم إغلاق المحضر على عقد صلح ودي بيني وبينه، أبرمته في حنق أملا أن تعود البطة إلي لكن لم يحدث، أخذ البطة ورحل، وقعت أنا المحضر بعدم التعرض له بأي أذى وانصرفت يدور في ذهني سؤال واحد.

” من سرق البطة؟ ”

وأنت يا قارئي متقد الذهن حاد الذكاء، إذا ما أعطيتك بعض المفاتيح حللت اللغز، احذف البطة وضع فلسطين، وأزح الأصدقاء وضع العرب، وضع محل الفتى الغريب إسرائيل، ومحل ضابط الشرطة كل من غيب عقله وصدق الصورة المزورة، ودقق في دلالة الأحداث والأفعال، يستقم لك المعنى وتتضح لك الصورة وخد خطوة إلى الخلف، والأن أخبرني، من سرق البطة؟

” لكن نصرا ما مختبئ في هذا الحطام سيظهر تدريجيا لا محالة- تميم البرغوثي”

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: