منافرة العين والجوارح
بقلم دكتور خالد سعيد
الحمد لله الذي ميز بني الإنسان بعقل حاكم وحجر وازع ونُهية زاجرة ونفس لوامة، وبعد فإنه ما تقارب اثنان في الرّتبة إلا تحاسدا، ولا اجتمعا في مقام رفعة إلا ازدحما على ماء المجد وتواردا، يريد كلاهما لنفسه القدح المعلى والجيد المحلى والسماك الأعلى والمقام الأسنى ، وكل في عين نفسه سابق وإن كان سكيتا وغيره في عينه ضال ولاحق وإن كان خريتا، دعواهما واحدة وبيانهما عن الدعوى مختلف
وإني رأيت مثل ذلك التباري والتناطح بين العين والقلب والجوارح، فكأني بالقلب وأصحابه على العين ناقمون وعلى قيادها ثائرون، قد اتفقت كلمتهم على جحد أفعالها وإنكار تقدمها، فتنافروا جميعا إلى العقل ورضوا بحكمه فيهم، فقال العقل: فليقل كل منكم ما ينقم منها، ولتدفع العين عن نفسها وتبين عن مكامنها.
قال الوجه يخاطبها: مالك تسبقينني أيتها الباصرة وأنا الموكل بالابتسام والبشاشة ، تتقدمين أمامي وتفسدين علي ابتسامي ببسمة هي أجمل من بسمتي ، وإن لي العبوس والبسور والكلوح والبسول والوجوم لكن عبستك أشد وكلوحك أمضى، فإن أقررتك على سبق البسمة منك ففيم تنازعينني أمارات التغيظ وعلائم السخط؟ أهو حب التصدر أم هوى السبق ؟
فقالت العين: ما بي ما قلت من حب تصدر وإرادة سبق ولكن أما ترضى مني أيه الوجه بأن أمهد لك بأحسن ما يكون التمهيد وأؤيدك بأوثق ما يكون التأييد، وهب البسمة منك ظاهرة والشفاه منفرجة والخد متورد الأسنان منبلجة ثم إني خالفتها بعبوس، أيكون لك ساعتئذ حظ من بهاء وملاحة أم تكون أقرب إلى التشويه وأدنى إلى القباحة؟
فقالت اليد: فمالك إذن تسبقينني في البطش والتسلق والأخذ حتى قال تعالى” ولا تمدن عينيك”
فقالت العين: ما رأيت أحمق منك أيتها اليد فأنى لك بتمييز ما يصيبك من لسع وقرح أو لدغ وجرح، من ذا ينبهك فلا تواجهين سكينا ولا تقفين أمام شعلة من يحثك فتفرين من العقارب والزنابير، فما أجحدك إذ تنكرين ما أحذيك من أمن وما أهبك من نجاة
فقالت الساقان فإنك تجرين قبلي وتسعىن قبلي وتصلين دائما قبل وصولي،
فقالت العين: لأكشف لك الطريق وأجنبك عثاره وأنزلك الموطأ منه وأحاشيك شأزه وأخطاره
ثم تكلم القلب والحزن منه باد فقال : فماذا تركت لي أيتها النمامة السعّاية، وقائل العرب يقول:
إذا قلوب أظهرت غير ما … تضمره أنبتك عنها العيون
فإني إن أردت كتمان قِلي وستر حقد كشفتِه حتى قال القائل
إن كاتمونا القلى نمّت عيونهم … والعين تظهر ما في القلب أو تصف
وإن شئت إضمار هوى فضحتِه ؛ حتى قال ذو الرمة وهو عندي الأرق الأغزل
نعم هاجت الأطلال شوقا كفى به … من الشّوق إلّا أنّه غير ظاهر
فما زلت أطوي النفس حتّى كأنّها … بذي الرّمث لم تخطر على بال ذاكر
حياء واشفاقا من الرّكب أن يروا … دليلا على مستودعات الضمائر
وإن كان بي غيظ شرحته، حتى قال الشاعر:
إن العيون لتبدي في تقلبها ……ما في الضمائر من ود ومن حنق
وإن كان قلق بينته ، فقالوا:
أما تبصر في عيني … ي عنوان الذي أبدي ؟
ثم الطامة والواقعة عنادك لي وإباءك موافقتي فإني يكون مني رقة لامرئ أو إشفاق على حال، وأعلم أنه ما يكشف الستر عن رقتي إلا دمع فيك حائر ولا يدل على إشفاقي إلا توكاف منك أسلمته المحاجر، ولكنك تتمسكين بالجمود وتتشبثين بالتحجر ، وإن كان ثم إهانة لا تقبل وظلم لا يتحمل ناشدتك ألا تسكبين دموعك فتدلين على ضعفي وهواني فما أراك إلا راغبة عن سواد الإثمد إلا ومذرية حشو المكاحل، فإن شئت التأسي والليان جحّدتني وإن أردت الشموخ والعنفوان هدمتني
فقالت العين إني أقر بما تقول أيها القلب ولكني أعينك أحيانا على التستر والتخفي وأتكلف لك ما لا أتكلفه لغيرك فأبكي دون إشفاق وأبسم وأنت المغيظ المحنق وما كشفتك إلا على رغم مني وما دللت على حالك إلا على منازعة بين دموعي وبيني، وشئونها لا أحكمها وماؤها لا أملكه
فقال اللسان تعسا لك من بينة فصيحة كشفت عواري وأظهرت ضعفي فمنطقك فصيح أبين ومنطقي عيي ألكن وأنا البكيء وأنت المفوهة، وللعرب في بابة حديث العيون حكَم لا تستغث وثوب سداد لا يُسترث وأحرى بكلام نطق بحال العين
أن يكتب بماء العين، فانظر مثال ما قلت قولهم : ربّ طرف أفصح من لسان، فيالك من ناطق لا يحاور وخطيب تسيد على المنابر
وللقلب على القلب … دليل حين يلقاه
وللناس من الناس … مقاييس وأشباه
وفي العين غنى للعي … ن أن تنطق أفواه
فقالت العين: صحيح أنني أعينك على بلوغ القلوب وأسعفك إن ارتج عيك مقال وأطلع الرائي على ما وراء القول منك ولكني لك تبع وبقولك مأمورة ، فأنت الطالع نجمك فلا يأفل، وسؤددك هو الحاكم الذي لا يعزل، ومسك الكلام دون عبيرك والنهر ليس نقطة في غديرك، منابر المعالي إليك موقوفة وعليك قاصرة فاقبل مني ما أعدة مناصرة وما أراه مؤازرة
فقال العقل الذي إليه الحكومة والمنافرة ليحكم المسألة ويقضي في القضية: إن للعين لغة لا تخطئها عين خبير ولا تنكرها نهية بصير ، هي وجه القلب السافر وبريد ما انطوت عليه الضمائر، تنم عما يُكن وتكشف ستر ما يُجن وتقر اليقين لما يُظن، فواحة بواحة، شراحة فضاحة ، خوانة للسر ضنانة بالستر ، وكأني بها عصفورة شركة الأبدان ومذيعة قناة الجنان، ومخبرة شرطة الكتمان، لكنها هي الهادية لكم وأنتم الضلال، والمبصرة وأنتم العور والعميان، فاقبلوا منها ما تقدم أو دعوا، وهذا حكمي فيكم وفيها
فقالوا جميعا قد قبلنا ، قد قبلنا .