“مكامن الإبداع” ج١ – الفصل الثالث “الأداء التعبيري”

(الأداء البلاغي)

 
بقلم: عبد الله جمعة

إن القائمين على تدريس البلاغة العربية إنما يقتلونها حين يصوِّرونها دونَ عمدٍ – على ما أظنُّ – في صورة القوالب الجافة الجامدة التي تتمثل في صورة قوالب صمَّاءَ تحفظ لا تمارَسُ و قد نجح المصطلح الغربي في المرور إليهم و غَزْوِهم تعبيريًّا ؛ لأن المفاهيم الغربية قدمته في صورة ممرٍّ آمنٍ لتمرير الحدث الدرامي الشعري من خلاله فتقبله أبناؤنا و أنكروا أصله في عربيتنا الخالدة .
فإننا إن عرضنا لمتعلمي البلاغة قوله تعالى : “فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ وَ لَهُمُ البَنُونَ” و طلبنا منهم أن يوجهوا هذا الخطاب لأحدٍ و سألناهم : لمن توجهون هذا الخطاب ؟ و لماذا ؟ مع وضع في الاعتبار أننا سنكون قد فسرنا لهم معنى الآية و أسباب نزولها ، ستكون الإجابة : إنها موجهة إلى الذين قالوا أن الملائكة بنات الله ، و هذا الخطاب موجه لهم لإنكار ما ادعوه باطلا على رب العزة … فنقول لهم : هذا الاستفهام نسميه في البلاغة “الاستفهام الإنكاري” ، ثم نطلب منهم البحث عن آيات تحمل ذات الصبغة الدلالية من خلال مواقف قرآنية متشابهة و نكون قد أعددنا أمامهم بعض أجزاء من السور التي تحمل نفس الاستفهام الإنكاري و غير الإنكاري نجدهم بمنتهى البراعة و السرعة و بعد التفاعل مع الحدث الدرامي للموقف قد وصلوا لمثل قوله تعالى :
* أَفَسِحرٌ هٰذَا
* أَشَهدوا بالحقِّ
* أيحبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحم أخيه ميتًا
فنحن في قصور الثقافة نفتتح مدارس لتعليم فنون الشعر لأبنائنا الشعراء الناشئة و لكننا نقدم لهم أيضًا قوالب البلاغة جافة صلبة فتكون النتيجة المحتومة فرارهم و لجوؤهم لمن ييسرون عليهم الأمر و يدفعونهم دفعًا إلى الكفر بقواعد البلاغة بل الكفر بأصول العربية و التوجه إلى القوالب الجاهزة السريعة – الديلفري – تمامًا كالأم التي لا تحسن تقديم طعامها الذي طهته بنفسها في نكهة تستفز شهية أبنائها فيفرون منها إلى الوجبات السريعة التي تضر بنيتهم ولا تفيدها شيئًا لا لشيء إلا لأنها شهية الطعم
ذات يوم و منذ عدة سنوات و في إحدى مدارس الشعر التي افتتحت في أحد قصور الثقافة و أُسنِدَ إليَّ تعليم الناشئة من الشعراء فنون الشعر قلت لهم أثناء حلقة العلم … قال الشاعر :
حمامة جرعى حومة الجندل اسمعي
فأنت بمرأى من سعاد و مسمعِ
و سألتُهم بعد أن عرضتُ عليهم البيت : ما رأيُكم في هذا البيت ؟ و لم أكن قد شرحتُ شيئًا لهم قبل أن أعرضَه ، فردَّ معظمهم : صعب الفهم مرتبك المعنى ، فقلت لهم : و ما الموضع الذي تشعرون فيه بهذه الصعوبة و هذا الارتباك ؟ رد أغلبهم في قول واحد : الشطر الأول غير مفهوم و أما الشطر الثاني فهو جيد مفهوم . فقلت : أنتم على حق ، أتدرون لماذا ظهر لكم الشطر الأول بما ظهر عليه من ارتباك و غموض ؟ . قالوا : لا … و لكنه مرتبك . فقلتُ : نتيجة تتابع الإضافات في الشطر الأول و هذا عيب من عيوب البلاغة يسمى (تتابع الإضافات) …
إن هذا الأمر قد مرَّ عليه أعوام و شبَّ الصغار الذين كنتُ أعلمهم فنون الشعر فمنهم من أصبح الآنَ شاعرًا له باع في ساحة الشعر ، فكلما مرَّ بي أحدهم أحده يقول لي : ما زلت أذكر العيب البلاغي”تتابع الإضافات” الذي علمتنا إياه و كلما ههمتُ بكتابة قصيدة و أجد الفقر المعجمي يدفعني لمثله أتذكر الموقف الذي عرضتَه فيه علينا فأجاهد نفسي حتى أهرب منه و لا آتي به في قصيدتي .
و من أمثلة ذلك كثير ، فمثلاً يقول الشاعر :
نَهَبْتَ من الأعمار ما لو حويتَه
لَهُنِّئَتِ الدنيا بأنك خالدُ
ففي هذا البيت ما يسمى بـ “الاستتباع” و هو من المحسنات البديعية العربية حيث يُمْدَحُ بشيءٍ على وجه يستتبع المدح بشيء آخر ؛ فقد مدح الشاعر ممدوحه بالنهاية في الشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببًا لصلاح الدنيا و نظامها .
و سوف أعرض بعضا من الشواهد الشعرية تلقي الضوء على ألوان و ممرات بلاغية غاية في الروعة قد لا يعلم كثير من الشعراء عنها شيئًا لا لشيء إلا لأننا قد جففناها فأصبحت مهملة فعافتها نفوس الشعراء الآنيين من الصاعدين إلى منصات الساحة الأدبية الحالية .
إلا أن المخضرمين من شعراء الآن ملكوا تلك المهارات البلاغية و أصبحوا قادرين على جعل المعنى يعبر عن نفسه في اجتيازٍ صحيحٍ لنفس المتلقي .
للشاعر المصري السكندري (محمود الفحَّام) :
من قصيدة له بعنوان “عاشق الإسكندرية”
أيها العاشق الإسكندرية
طب مقامًا إنها دومًا حفيَّة
قم و عانق أمسيات الحب فيها
ليس مثل الثغر للنفس الظمية
سر على الكورنيش و استنشق شذاها
و تنسم عطر نسمات نقية
ذا شراع فوق خدِّ الماء يسري
قَبَّلَ الموجات فانسابت رضية
ها هنا الآمال و الأحلام تترىٰ
فانسَ ما يثنيك عن عشق الصبية
هنا لعب محمود الفحام على وتر البلاغة ليحولها مرآة يعكس عليها المعاني التي يسعى لتحقيقها .
– في البيت الأول : لعب على وتر الإطناب البلاغي فقد أراد أن يؤكد لزائر الإسكندرية أنه سيطيب مقامًا فيها فنجده قد “ذَيَّلَ” المعنى بمعنىً آخر يشتمل عليه و يؤكد الحكم فيه “طِبْ مَقَامًا – إنها دومًا حفية” . ذلك ما يطلق عليه البلاغيون (إطناب التذييل) .
– في البيت الثاني استعمل أسلوبًا بلاغيًّا من “علم المعاني” في غاية الروعة ربما يستخدمه كثيرٌ من الشعراء دون أن يدروا أنه من أرقىٰ ألوان الأساليب البلاغية ، هو “إثبات الشيء للشيء بنفيه عن غير ذلك الشيء” فقال : “ليس مثل الثغر للنفس الظمية” فقد نفى صفة الري عن كل شيء حتى يثبته للإسكندرية
هكذا يمكن أن نقدم البلاغة العربية حتى نحولها من مجرد قواعدَ جافة إلى درامًا تأخذ لُبّ المتلقي فيُقبل عليها شغوفًا راضيًا لا يسقط في المصطلح الغربي الموازي و يعلم أن بلاغة العرب قد سبقت هذا المصطلح الجديد لا لشيء إلا لأن ذلك المصطلح الغربي قد قدم في سياق درامي شيق .
(عبد الله جمعة)

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: