محمد فيض خالد يكتب : عدو النِّعمة
لم يكن على الهَيئةِ التي ترَكتهُ عليها آخرَ مرةٍ ، تبدّى سمينا ليّنَ العود بعدَ جَفَافٍ ، اعرف عنه البُخل والتَّقتير ، وحُبّه القرش لدرجةِ العبادة ، قالوا لقد انتفشت حاله بعد إذ تَحنّنَ عليِه المعلم ” عَزب” ، فجعله ضمن حاشيته ، والمعلم ” عَزب” لمن يجَهله ، مُتَعهِّد حفلات كبير لا يُشقّ له غبار ، يطوف شرقا وغربا في أفراحِ ومآتم وانتخابات ، يعرفه عِلية القوم وأسافِلها ، طَالعت سِحنَته التي تمشّت الحُمرَة فيها بعد احتراقٍ ، فبَدت بَشرته زاهية تتَلألأ ، إِذ ارتَوت من خَيراتِ المَوائد العَامرةُ وأطايبها .
تَشعّ عَيناه بوميضٍ مخيف ساعة يقَصُّ على جُلسائهِ مظاهر الأُبَّهة ولذائذ الأطعمة والأشربة التي صُفّت ، وكيفَ تنَقُله بينها كَعصفُورٍ رشيق ، يقَتطِفُ من خيراتها بلا حِساب ، بيد أنّ طبعه يُغالِبه ، فيتبع كلامه بنبرةٍ سَخيفٍة ، يغلفها الكَمد يَعتصِر نفسه المُشتتَّة ، يقول مُتنهِّدا :” حظوظ وأرزاق ، ومال سايب زي الرز مع ناس ولا تسوا “، وكأنّه يَسترجعُ سَريعا سنوات عمره التي انفرطت مثل حَباتِ عقدٍ ، يخبرني أكثر من واحدٍ أنّه جَشعٌ حَقود ، يسَتكثرُ الزِّرقَ في العباد.
يحسب لوقع قدمه ألف حساب حتى ضاق بطباع نفسه ، يلومها حين سماع أثر نعمة على صَديقٍ من أقرانهِ، يَظل على ثوَرتهَ واهتياجه يتَحرَّق ، يُعنِّف قدره الذي أوكَلَ أمر الدُّنيا لأُناسٍ أنصاف ، حِين بَخِلَ عليهِ وهو المُجِدّ الساعي ، حاول أكثر من مرةٍ أن يلبس أسَمال الزُّهاد ، يصبغ سِحنته بأصباغِ القانعين بقضاءِ الله وقدره ، لكنَّه يفَشلُ في الأخيرِ ، يَصرخُ مهتاجا :” الرزق أعمى “، يخيفك مرآه حين تعلو نبرته مُعنِّفا أولاده يَعدّ عليهم أنفاسهم ، مبَدأه :” لا تترك ابنك يملأ بطنه من العيش أبدا ، فذلك أنفع له وأحرى ألا يصاب بتخمة تضعفه “، في فترتهِ الأخيرة اعتلَ مزاجه ، واختَلَ توازنه ، لا تغَمض عينه إلّا لِماما، يَنامُ قَلقِا ، لو استطاع لأغمضَ عين وفَتحَ الثانية ، يقولُ في ثقةِ المُجرِّب :” إنَّ النَّوم فشل لا أؤمن به أبدا ، هو حيلة البليد الذي لا يجد معه استكانة “، زُرته منذ أيامَ فوجدته مُعتلَّ الصِّحة ، وصُفرة فاقعة تَفشَّت في جِلدهِ ، فاختلط الأسود بالأصفر في هَالةٍ باهتة ، تُنذر بانتكاسةٍ قريبة ، إن لم تتَداركه رحمة الله ، يتَهامس في وسوسةٍ حِينا ، يُؤشِّر بيديهِ حِينا في لوثةٍ مُقلقة ، يَهُبُّ واقفا يخطو بضع خُطواتٍ قبلَ أن يعودَ مَحله ثانيةً ، تَعوّد الصَّمت اهملَ مُشاركة جُلساؤه ، يكتفي بنظرةَ حَمئة ، يتَفحّص بها الجَمع في تَوجّسٍ مُزعج ، ثم يبدأ في وصلةِ ضَجره ، صَحىَ رفِاقه يَوما فلم يعثروا عليه ، وجدوه جَالِسا بينَ أكداسِ القمامة زاعِقا بصوتهِ مُتوعِّدا ، أولئك الَخونة الذين سرَقوا حَظَّه من الدُّنيا ، ولابُدَّ من تأديبهم ، يَوما بعد يوم تسوء حاله ، ليجد نفسه على متنِ طائرةٍ عاَئِدا إلى الدِّيارِ ، وإلى جوارهِ مرافقهُ ، يُخبِّئ إبرة المُخدِّر يَستعملها عند اللُّزوم .