محمد عيسى يكتب: الرحايا

الرحايا

محمد عيسى

 

الثانية بعد منتصف الليل، وشتاء زمهريري قارس، أنسلُّ من بين أحضان زوجي، أنهض مُتثاقلًا بعد ليلة طويلة أضناني فيها الأرق، أحاول استجماع قِوايَ ولكنّي أتعثّر وأسقط أرضًا.

ليس بي مرض عضوي، ولكنها ظِلال العَطَبِ النفسي، وآلام يوم البَيْن، والاستعداد للرحيل، فأنا بين عائلتي كأنني فَرَغْتُ من الحساب.

أحاولُ النهوض مرة أخرى.

تستيقظ أمي على وطء خُطُواتي الثقيلة، وبصوت يَغْمُرُه الحنان: إنه لم يحن موعد القطار بعد يا بُنيّ.

أنا: نعم يا أمي، ولكني أريد إعادة ترتيب حقائبي وجلب بعض الاحتياجات.

على إِثْر تلك الضَّجَّة التي أحدثتُها تفيق زوجي من غفوتها؛ إنها لم تنم أيضًا وتشاركني الأرق كما تشاركني الكرى، وتشاركني الحياة.

وتظلّ تتردد بين المطبخ وبين حقائبي بخطوات سريعة متتالية، وينبوعُ وِدٍّ يفيض مِن مُحيَّاها.

أقوم لأداء صلاة الصبح وكلي مناجاة الصفح عن ذنوبي وآثامي.

أُلثِّمُ وجْنتيّ أبنائي برفق كَيْلا يصحو أحدهم، فتزداد آلامي.

أقدم رجلًا وأؤخر الأخرى، أستحثُّ العزم وأخرج من المنزل.

الصمت يخيم على القرية، عُواء الكلاب لا تهدأ، وغربان الشؤم تنعق في الأُفق، وصفير حاد يصم الآذان، ونقيق الضفادع يعلو كلما اقتربت من محطة القطار.

تبزغ الشمس طالعة، فتصمت لرهبتها جميع الكائنات.

استقلُّ القطار وأغرق في دوَّامة الذِّكريات، كم تأسرني وقع موسيقاه المنتظمة على القضبان، ويظلُّ يهدر ويمخر، وخلفه مُثار قَتَامِ الأيام وقَتَرة السنين.

يتناوب الباعة الجائلون على الرُّكَّاب؛ نفس الوجوه الكالحة ترغمك على ابتياع أي شيء، نفس الزبون الذي تنطلي عليه الحيلة ببراعة، وآخر تنتهي المفاوضات بينه وبين البائع بمشاجرة حامية الوطيس.

ثُمَّ يأتي الشَّحَّاذ تلو الشحاذ ممارسًا موهبته في التمثيل أو التضليل.

أنا: أغرقُ بين دفَّتيِّ كتاب أو أسبح على متن رواية، وأشرُدُ عن تلك التُّرَّهات القِطَارية.

بعد لأواء شديدة أصل للضفة الأخرى من شاطيء الحياة حيث العمل، والمعاناة النفسية الرهيبة.

أقوم بإفراغ حقائبي المكتظة، وتنضيد الأغراض في أماكنها، وأَغِطُّ بعدها في نوم عميق.

أَنْتَهِي من مهام عملي مُبَكّرًا، وأبتهل إلى الله أن يقيني شر الكائنات الآدمية.

تطرق أسماعي أنباء غزَّة، أهرول إلى الشبكة العنكبوتية أتحسس الأخبار، أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي الواحد تلو الآخر، لا شيء يطفيء لهيب ظمأي، لا شيء يوقف نزيف الدّم الذي انفجر.

أقف كالصنم لا أعرف ماذا أفعل؛ أسترق النّظر إلى سيل المقاطع الدامية، إنها بالتأكيد ليست من أيام الدنيا إنها أشبه بأهوال يوم الحشر.

السماء لا تمطرُ ماءً؛ بل قاذفات لهب وحميمُ نار، الدُّخَان يعمم المكان، المدافع تصب جامّ غضبها على البِنايات، الجرَّافات تجتاح الشوارع، الدَّبَّابات تزمجر غاضبة، الغارات تتناوب تترا.

صار ليلُ المدينة معتمًا إلا من وهج القنابل، وعصفت الجرافات بأغصان الزيتون والسنابل، لا شيء غير الصمت إلا أصوات الرواجم، كل شيء يبعث على الخوف إلا ابتهالات الصادقين، اتَّشَحَت المدينة بالسواد إلا من أنوار الشهداء.

يهدأ صخب القصف نوعًا ما، هدوء مرعب يجتاح الأرجاء، تجتمع أشلاء الأسرة الممزّقة إن تبقى منها أحد، يتقاسم الجميع رشفات الماء وكُسيرات الخبز.

أتدري معنى أن تُطْمسَ مباهج الحياة في مُخيلتي، وأن يعشِّش الحزن وجداني، أن أزدرد الوجع بلا ألم، ولا أستطيع حتى الجهش بالبكاء، أن أتدفأ بالسماء، والتحف الأرض، وأَدُسُّ رأسي البائسة في جُبِّ الرِّمال، أن أعانق صدر الحياة بذراع مبتورة، أن أُلَثِّمَ الأمل بوجه مشوَّهٍ، وشظايا الخوف والحرمان تنغرس في فؤادي.

كم تمنيتُ أن أغفو وأصحو وأنَّ ما شاهدته هو مجرد كابوس جثم على صدري، وأعود بعدها لحياتي الطبيعية، حيث زوجي وأولادي وطموحات العمل.

ثَمَّت أشياء فارقتني ولن تعود؛ تبدّلت حياتي رأسًا على عقب فأنا بعد السابع من أكتوبر غير ما قبله، ويشاركني هذا الشعور جلّ أصدقائي ومَن أعرف، حتى الجمادات لم تكن بالصورة التي أعهدها مِن قبل؛ فقد صوّح الوادي، وأقفر البستان، وأوحش المكان، وانطفأت الومضة، وأظلمت الدنيا.

أتذكر صديقتي في الفضاء الأزرق هبة أبو ندى، لم أنتهِ بعد من قراءة روايتها “الأكسجين ليس للموتى”.

إن هبة على صِغر سنِّها هى ملهمتي في عالم الكتابة، أناملها الغضَّة تنسج أبدع القوافي، وتسرد أبدع الروايات، وجهها الطفولي البريء يُحلِّق بي إلى آفاق ملائكية.

نسيت في زحمة الأحداث أنها من غزة.

أركض سريعا إلى صفحتها على الفيسبوك  أظل أتصفح،  وأقرأ بإمعان ما تكتب، ودموعي تسحُّ ساجمة “صفحاتنا الشخصية بيوت عزاء، جرائد نعي، ننتقل من صفحة إلى صفحة كأننا نمشي في ساحة جنائز متشعبة، ومفتوحة على بعضها، يا الله ما أثقل هذه الأيام!!!!”.

“نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وشعراء يكتبون في الحب الأبدي، كلهم من غزة، كلهم في الجنة، توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن”.

أعلمُ بعدها أنه آخر ما كتبت فقد حلّقت إلى حيث غزة الجديدة التي تشكّلت.

اعترتني رجفة شديدة، أنزف الألم، عجزت عن البوح لأي حد، عجزت كلماتي على التعبير، فقدت الشغف لكل شيء، هذه الفاجعة تنوء بحملها الجبال.

أستقِّل القطار، أَقْفُلُ راجعًا إلى مسقط رأسي مُثْقَلًا بالرزيا، وتدور على أضلعي الرحايا.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: