محمد دحروج … ناقد ورسالة

دكتور أحمد جاد
الحديث عن محمد دحروج حديث ذا شجون ، لما يحط شخصيته وحياته من آثار الحزن والمعاناة التي اكتنفت مسيرته الحياتية والأدبية ، فلا تكاد تستمع إليه إلا وجدت نفسك متوحدًا معه قلبًا وقالبًا .
فالباحث في شخصيته يجد نفسه أمام شخصية غريبة الأطوار ، عميقة الأغوار ، تأبى التحديد والانحصار ، نشأت نشأة تشبه إلى حد كبير نشأة الشخصيات الأسطورية التي قرأنها عنها في تاريخنا الأدبي كابن المقفع والجاحظ والرافعي والعقاد .
فنشأ الرجل كغيره من المتفردين من أهل الفكر والإبداع ، محبًّا للعزلة ، والانفراد بذاته ، وقد سجل ذلك في بعض ما كتب فقال : “”وسر حبي للعزلة ورغبتي في العيش وحدي أني قضيت طفولتي في مكان موحش بقرب مقبرة كبيرة ، وما كان بالمكان من أطفال ، فكنت أخرج تحت قيظ الشمس وأنا في السابعة أبحث عن القنفذ في وسط العشب ، وكثيرا ما كنت أدخل المقبرة أتمشى بها ، وكم أخذتني لعبة مطاردة الثعابين حين تنظر إلي من شقوق المقابر ، وربما كان هذا هو السر وراء هروبي من المدرسة ثلاث سنوات ، لأنها كانت بعيدة وكنت أخاف الناس وألوذ بالوحدة ، وكثيرًا ما جاء موعد الدراسة فأفر لأصعد عند أعلى فروع شجرة الجميز فلا يستطيع إخوتي الإمساك بي”
تلك النشأة التي تصور صاحبها كإنسان فيه من بأس القلب ما فيه ، فتخال نفسك أمام شخصٍ لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلا ، لا يألف الناس ولا يألفونه ، محبّا لتلك الأجواء الموحشة ، هو نفسه الذي يقول عن نفسه :
“وفطرني الله على مجانبة حب مضى أو صداقة انتهت ، فلا تميل نفسي إلى شيء تركته أبدا أو تركني وإن عاد بهيا جميلا ، غير أني لا أحب كسر خاطر من في نفسه شيء من طيبة وإن كنت صاحب الحق وحامل الأسى بصدد التاريخ القديم ، فإذا قدمت كلمة رقيقة أو لفظة حنونة فهذا لكوني لا أحب نهش الجراح القديمة ، أما أن يظن أحد أني أنتوي أن نبدأ من جديد فهذا محال ، وليس هذا لمنطق أتبعه؛ بل هو طبع سكنني مذ عقلت ، كما أن الإخلاص يمنع صاحب الفطرة الصحيحة أن يعود لماض قديم تشوهت ملامحه على حساب حاضر راق نقي” .
هو نفسه الذي يتملكه الحب ويسيِّره كما لو كان المحرك والموجه الوحيد في حياته، فنراه يقول : “ولا يتم للمرء معنى الكمال البشري في الحياة حتى
يعشق ، وإن الرجل مهما حقق من مطامحه يظل منقوصًا ولو أشاد الخلق بمسيرته ما لم يبصر نشوة الإعجاب في عيني حبيبته وما لم تمر على سمعه ألفاظ إكبارها له ، وإن القوي ليروزه البلاء ويخذله ثقاته ، حتى إذا ما وجد من يتعشقها لاشتمالها على تلك المناقب التي يرجو ؛ قام منتفضا في وجه الحياة ساخرا مما كان يعده فوق ذرعه مجاوزًا احتماله راغبًا في أن يكون رمزًا إنسانيًّا كأبطال الأساطير القديمة ، وما ذلك إلا لأن العشق به رقية من سحر الأحزان كلها”.
والحق أن محمد دحروج كل هذا .
إنه الشاعر الذي ينسال الشعر من قلمه عذبًا سلسلا كما ينسال الماء الزلال في الجدول الرقراق .
في جِلْسةِ الوَجْدِ كانَ الصَّمتُ ذا ألقٍ
وفي التكتُّمِ يُسْقَى ذو الهوى سُمَّهْ
أعُوذُ بالـحُبِّ مِنْ سَهْمٍ يُرادُ لنا
كما الطواغيتِ إذ تقسُو على الأُمَّــةْ
في كأس قلبي جعلتُ الخمرَ سيِّدةً
فكانَ أمرُكِ أنْ يلقى الفتى هَـمَّــهْ
يا واهبَ العُمْــرِ عشقًا لا بقاءَ لــهُ
للزَّهْــرِ طَيْفِي ، وللأغيارِ مَنْ شَمَّـهْ
حظِّي مِنَ العشقِ أشعارٌ وأخيلـةٌ
فخُـــذِ دمائي ، وهَبْ في ركعةٍ ضمَّــةْ
يا سجدةَ الرُّوح في محــراب صاحبتي
الضَّعفُ منكِ هو العلياءُ والقمَّـــةْ
وهو الناقد الذي لا يشترى ولا يباع ، ولا يخاف في الحق لومة لائم ، ولا يهاب خوض غمار المعارك الأدبية من أجل إعلاء راية الحق والانتصار لقيمة الصدق ، يتكلم حين يخشى الآخرون ، ويصمت حين يرى أسواق النخاسة الأدبية تقرع طبولها .
وهو الأثري والمحق والباحث في كتب التراث وعلم الرجال ، ودروب الجرح والتعديل الوعرة .
وهو الناشر صاحب الرسالة في زمن جل الناشرين فيه تجار ، يبحثون عن الربح ولا يهمهم مضمون ما يقدمون .
إنه كما يقول ناقدنا الأستاذ عمرو الزيات :
“الأديب العصامي الذي استطاع أن يحفر اسمه بحروف من نور في دنيا الأدب والثقافة رغم أنف الحياة والأدعياء الأنصاف، صاحب رسالة وهدف، يحمل بين جوانحه قلبا نقيا لا يعرف ضغنا؛ بيد أنه _ في الحق الذي يعتقده _ صواعق مدمرة”.
ويقول الأديب رضا عجور : محمد دحروج إنسان بدرجة كبيرة لايتخلى عن غيره وهذا من أسباب ألمه ورغم ذلك يواصل مسيرته وعطاءه هو أديب كبير مشواره في خدمة الحياة الأدبية أكبر من عمره لديه القدرة على خدمة دينه ومجتمعه بشكل كبير من خلال قلمه ولكنه لم يعط هذا الجانب بقدر مافيه من الخير والقدرة هو أديب موسوعي لم أعرف في حياتنا الحاضرة أحدا في قوة حرفه وامتلاكه لأسباب التفرد علما وأدبا ونقدا وتنوعا وشمولية ظلم نفسه وحياته الخاصة كثيرا لانشغاله بالمعارك الجانبية على حساب صحته وعمره
فتحيةً إليك أيها الحبيب في ذكرى ميلادك .