مئوية العلامة محمد رجب البيومي

د. علي زين العابدين الحسيني| أديب وكاتب أزهري
من أبناء مدرسة “الرسالة الزياتية”، وذوي النفوس النقية المتطلعة إلى الحياة في صفاء، وعقد صداقات حتى مع مخالفيه رؤية، ونشر روح السلام والتسامح بين جميع أطياف المجتمع، في نفسه اعتداد بالعربية، وتطلع إلى دراسة أوجه استعادة الأمجاد، وصناعة الحضارة، واستقاء ملامح الصوفية النقية، واستمداد عظمة التاريخ.
هذا العمر الطويل الممتد في عالم الكتابة منذ كان طالباً بالمعهد الديني بدمياط لا يمكن أن يضيع هكذا بدون تكريم حقيقي، لم يكن يمرّ يوم عليه دون أن يكتب مقالاً، أو بحثاً، أو يرد في رسالة على تساؤلات طلابه ومحبيه، وهو الذي له في كلّ مكتبة أثر، وفي كلّ حادثة رأي، وفي كلّ موضوع تحقيق، وفي كلّ مجلة مقال، وفي كلّ بلدٍ محبون، وفي كلّ ترجمة إضافات!
إنّ ميزة كتابات هذا العالم الجليل والأديب المكين كثيرة جدا، أهمها: أنه تبلورت فيها الاعتزاز بالحضارة، والعمل للنهوض بالنفس والمجتمع من خلال مشاريعه العلمية المتعددة، وتعمقت في ذهنه فكرة البحث والتأمل للآراء وأعمال الرواد بصورة واضحة، علاوة على أنه ذو نفس هادئة، وكتابة روحانية خالصة، من جيل المجددين المحافظين، وفهمه للقضايا العامة فهم يسير صريح مستمد من المنابع الأصيلة لفهم الإسلام، البعيدة عن التعقيدات والميولات الفكرية لأشخاص أو أحزاب، ولهذا فهو على رأس جمهرة من علماء الأزهر ليس لهم أيديولوجيات سياسية.
كتبت فيما مضى دعوة لدراسة أدب وكتب أستاذنا العلامة محمد رجب البيومي دراسة مستفيضة تليق بعلومه، فقلت: “وقلم أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي يحبّ ولا يكره، ويجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويصاحب ولا يخون، ويعتذر ولا يفضح، ويقرأ قبل أن يحكم، ويشجع قبل أن ينقد، ويذكر المحاسن قبل أن يتعرض للمساوئ، ويحيي البعيد في تراجمه قبل القريب، ويصافح بكلماته القلب قبل اليد، ويذكر مَن أمَات الناس ذكره، فهو قلم فريد محمل بكلّ جميلٍ للإنسانية، وكم تمنيتُ أن يلتفت لكتبه ومقالاته أدباء وكتّاب ونقاد العصر على الوجه المطلوب؛ لأنّ قيمته الأدبية تقتضي منا ذلك، وما بذله من جهد ووقت يحتم علينا هذا، ولو قرأ كلّ أديب أو كاتب محمد رجب البيومي من زاويته، فأخرج مقالًا يحيي ذكره وهو في عداد الموتى لخرجَ لنا عدة مقالات يمكن جمعها في كتابٍ يُهدى إلى روحه الطاهرة، وهو غائب عنا بجسده، حاضرٌ معنا بروحه الزكية، تلك دعوتي، فلعلها تجد في قلوب عارفيه ومحبيه وتلامذته قبولا”.
لقيت الدعوة قبولاً من عارفي فضله وعلمه وأدبه، فعلّق على كلامي سعادة الدكتور منيب ربيع الليثي كاتباً: “أحسن الله إلى الدكتور علي الحسيني تلميذ العلامة محمد رجب البيومي، وليت دعوته للكتابة عن العلامة الجليل تجد آذانا صاغية من تلاميذه الذين تلقوا عنه وأفادوا منه، ومن قراء أدبه شعرا ونثرا ونقدا، فيكتب كلٌّ منهم في ناحية من نواحي علمه الجم وثقافته الموسوعية الفريدة.
ولعلي لا أكون مبالغا في رجائي إذا رجوت من تلاميذه ومن الأزهر الشريف جامعا وجامعة إقامة احتفالية كبرى بمئويته في أكتوبر ٢٠٢٣، تقدم فيها أبحاث ودراسات وتناقش أعماله، وتطبع سيرته”. اهـ
نشأ أستاذنا البيومي في محيط الفقه واللغة والأدب، وشغف منذ صباه بالكتابة وفنونها، والتهم كل ما وصل إليه من كتب، فهو أديب أصيل، نقّاد في طرحه، عميق في مادته، شاعر مكثر، هزته وفاة زوجته في غربتيهما، فرثاها في ديوانين شعريين، يؤمن برسالة الأدب، ويتميز بالهدف الواضح، ويتعمق في المعرفة، ويجيد إجادة ملحوظة في تحليل الشخصيات العلمية وأعمالهم.
كان الرجل يعمل في السلك الأكاديمي، فإذا انتهى من أعماله انصرف إلى مكتبته، وكان قد وضع على جدران غرفته الخاصة مجموعة من صور الأدباء والعلماء؛ كالزيات والرافعي والمنفلوطي وطه حسين والعقاد ومحمد الخضر حسين ومحمد فريد وجدي؛ ليعيش معهم في خلوته التي ارتضاها لنفسه في جو مشبع بالروحانيات وتذكر الكبار والاعتزاز بعظماء الأمة وصالحيها، وهو في خلوته عنصر مهم في المجتمع، يشارك في كلّ قضية تشغل الرأي العام.
يعطيك تاريخه صورة الرجل المقبل على شأنه، والسائر في طريقه دون النظر إلى عوائق الطرق والصعوبات التي قد يواجهها أي أحد، وله ولوع بقراءة الدوريات والمجلات الأدبية القديمة، وعناية خاصة بالرسالة الزياتية، وقد عمل على فهرسة “الرسالة” بناء على موضوعاتها، وهو عمل أفاده كثيراً في الإحاطة بكثير من الموضوعات والأفكار التي بنى عليها بعض مقالاته وكتبه.
أواجد أنا مَن يصدقني حين أقول إن حياتنا الأدبية بعد وفاة العلامة البيومي عجزت عن أن تأتي بأمثاله ليسدّ هذا الفراغ الموحش؟ إنّ الرجل أحيا في كتبه كثيراً من الشخصيات التي كانت في طيّ النسيان، وسرد لنا أحداثاً لولاه لكانت في عالم الكتمان، فمن واجبه علينا الآن إحياء ذكراه بكلّ جميل.
أجدد دعوة الاحتفال بمئوية أستاذي العلامة محمد رجب البيومي وأباركها، وآمل من علماء الأزهر ومشايخه وطلابه ومحبيه إحياء ذكراه بما يستحقه!