لم يفُتِ القِـطـارُ بَعــد..

قصة بقلم: الأديب صلاح المكاوي
أنهى (نادر) يومه الجامعي بكلية الآداب بالفرقة الثالثة قسم علم النفس بعد محاضراتٍ نالت منه ونال منها، وغوصٍ في أعماق النفس البشرية، بيْد أنه اختلف عن أقرانه في تلك الدراسة التي قد تبدو لدى البعض بأنها ليست ذات جدوى، إلا أنه صبغها بالصبغة الدينية التأملية، وربطها بالقرآن والسنة؛ إذا لم تشبعه تلك الدراسة السطحية الروتينية؛ لذا عزم على استكمال المسيرة في دراسة الطب النفسي لسبر أغوارِ النفس وفهم طبيعتها ومكنوناتها ماضيًا يُسابق الزمن بخُطىً واثقة مرفوع الهامِ بثباتٍ ويقين يحدوه الأملُ إلى مستقبل مشرقٍ بفضل الله.
ذابَ نادر في الأمواج الهادرة من الطلاب على اختلاف مشاربهم وتطلعاتهم خروجًا من بوابات الجامعة، ولكلٍ وجهة هو مُولّيها وطريق لامحالة سالكه.
كانت وجهتُه صوب المنزل مباشرة بعد عناء يوم دراسيِّ شاق.
القطارُ يزعقُ من بعيد فيرتجُّ له المكان ويتزلزل من خطواته المكان، ولكن كان لزامًا على نادر أن يعبرَ المزلقان لتستقيم وِجهتُه، يسرعُ المارة من جهتي المزلقان كلٌ يريد العبور قبل مجيء القطار!
القطارُ الآن على مرمي حجرٍ من المزلقان، هل سيلحق كلُّ المارّين العبور؟ ربما لا.
القطارُ يزعقُ من جديد ليُفسحَ الطريق أمامه، تظهرُ طالبةٌ في العَقد الثاني من عمرها في كامل زينتها وكأنها عروسٌ قد زُيِّنت لزفافها، التبرج سَمْتُها والسُّفور سِماتها، مازال القطارُ يزعقُ، لم تنتبه الفتاة، ترددت بين العبور والوقوف، انطلق القطارُ القادم من الإسكندرية إلى بورسعيد كالبرق الخاطف يتوسط المُنتظرين على جهتي المزلقان، ارتمتْ الفتاةُ أرضًا بجوار عجلات القطار وقد أُغشي عليها ظنًا منها أنها فارقت الحياة، وأن عجلات القطار قد دعستها، إلا أن نادر قام بالتقاطها بسرعة مُخلِّصا إياها من براثن القطار التي قد تطالها وتودي بحياتها في أي لحظة، طرحها على أحد المقاعد بالمحطة، التف حولها بعض قريناتها حتى أفاقت، اعتراها الدَّهش ولم تصدق نفسها! إنها مازالت حيَّة، تتحسّسُ كل جزء في جسدها، ثم نظرت إلى مُنقذها نظرة امتنان وعرفان، مدت يدها لتصافحه، رفض بشدة قائلا: لا أصافح النساء، فقالت له: ألم تحملني منذ قليل؟!
قال لها: لقد كنت مضطرًا لإنقاذ حياتك، والضرورات تبيحُ المحظورات.
طلَبتْ منه عنوانَه ليشكرَه أبوها على صنيعه ويكافئه جزاء ماقدم؛ فأبوها رجلٌ ذو وجاهة ومقام رفيع!
لم يكترث نادر بطلبها قائلا: لقد قدمتُ الواجب دون انتظار الجزاء من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى، ومع إلحاحها أعطاها رقم هاتف أخته لتتواصل معها، ومن ثمَّ أعطتْها العنوان.
فوجئ نادر بالفتاة وأسرتها يطرقون بابه للزيارة على غير موعد، وقدم والدُها الشكر الجزيل والامتنان الجميل لنادر وطلب منه أن يتمنى عليه، فقال له: لا أبغي شيئا سوى أن ترتدي ابنتُك الحجاب؛ فاستنكر أبوها ذلك قائلا: تلك حريةٌ شخصية فلا تضيّق واسعًا يابنيّ، ولكن الكلام وقع في قلب وعقل الفتاة مستجيبةً لنادر قائلة لأبيها: لقد كنتُ الآن في عداد الموتى أُسْأَل يا أبي، فبم كنتُ أجيب؟!
ومع إصرار الفتاة رضخَ أبوها لرغبتها وقامتْ على الفور لترتديَ جلبابًا سابغًا لأخت نادر، وكذا غطاءً للرأس، وأصبحت بعد ذلك من أنشطِ الداعيات إلى الله في كلية الطب، تحثُّ أقرانَها على الالتزام ونبذِ التَّبرج.
ردَّدَ نادر في نفسه: سبحان الله..لم يفُتِ القطارُ بعد!
وتراءَى له قول الله تعالى:
“أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍۢ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: