لمحات عن إيطاليا بين الأدب والتاريخ والجغرافيا
لمحات عن إيطاليا بين الأدب والتاريخ والجغرافيا
إعداد: الدكتور إسلام فوزي محمد
إذا سألنا كثيرين من غير المتخصصين في دراسة الثقافة الإيطالية، لوجدنا تفاوتًا في كثير من المعلومات لدى البعض. هل إيطاليا دولة قديمة مثلما هي الآن؟ ما علاقة إيطاليا بالإمبراطورية الرومانية؟ ما الفرق بين روما وإيطاليا؟ روما هي العاصمة الأولى لإيطاليا؟ كل هذه الأسئلة يصعب الإجابة عليها دون الرجوع إلى تحديد بعض النقاط. فعن أي إيطاليا نتحدث؟ عن إيطاليا ما قبل الميلاد؟ إيطاليا ما بعد الميلاد؟ هل كانت هناك إيطاليا في الأساس قبل الميلاد؟ ما موقع إيطاليا من أوروبا؟ تظل كلها أسئلة مفتوحة تأخذ القارئ إلى محاور كثيرة، فلعل عنصرا الزمان والمكان من أهم العناصر التي علينا تحديدها كي نتمكن من إعطاء إجابة واضحة قدر المستطاع، وهما عنصران يدلان على التاريخ والجغرافيا بمصطلحات أخرى في دراسة شئون الدول. ولن نستطيع بكل تأكيد سرد تاريخ طويل لإيطاليا في أسطر أو صفحات قليلة، لكن نعطي إطارًا سريعًا ننطلق منه لرؤية إيطاليا الحالية وخلفيتها الثقافية تاريخيًا وحضاريًا.
إن إيطاليا بصورتها الحالية دولة حديثة النشأة، على عكس ما قد يتصوره البعض؛ فيعود تاريخ توحيد إيطاليا إلى عام 1861م حيث مولد الدولة الإيطالية الموحدة وإعلان مملكة إيطاليا بتاريخ 17 مارس 1861، وذلك وفقًا لمرسوم مملكة ساردينيا آنذاك الواقعة تحت الحكم الملكي لآل ساڤويا Savoia أو كما يطلق عليهم آل ساڤوي. صدر هذا المرسوم في عهد ڤيتّوريو إيمانويلِه الثاني Vittorio Emanuele II أو ڤيكتور إيمانويل الثاني كما عرف بالعربية أحيانًا وفقًا للترجمة من الإنجليزية. وبهذا ضمن لنفسه ولخلفائه من بعده لقب ملك إيطاليا. وصدر مرسوم في شهر مايو من العام نفسه يجعل هذا الحدث عيدًا قوميًا لإيطاليا ويُحتفل به في أول يوم أحد من شهر يونيو كل عام.
لكن هل حدث كل ذلك بمعزل عن الوضع الثقافي الاجتماعي الأدبي؟ لا. كانت هذه نتيجة لتيار ثقافي وأدبي وسياسي لحقبة تاريخية عرفت باسم Risorgimento أي “البعث” أو “النهضة”؛ باللفظ الإيطالي مصدر من الفعل risorgere أي يبزغ من جديد أو يظهر من جديد أو يبعث أو يولد من جديد أو ينهض ويستعيد قوته. وذلك لما فيه ثنايا هذه الفترة من إحياء لمبادئ تاريخية قديمة وشعارات نهضوية. فهناك محاولة لإحياء مجد روما القديمة، أي الإمبراطورية الرومانية، وهناك محاولة لإحياء عصر النهضة المعروف بالإيطالية Rinascimento، وهو من أسس نهضة أوروبا كلها. ويحدد المؤرخون بداية هذه الحقبة التاريخية فيما بعد مؤتمر فيينا 1814-1815 إلى فبراير من عام 1871، أي حتى باتت روما عاصمة إيطاليا. وبالتالي هي مرحلة مهمة في التاريخ الحديث العالمي إلى توحيد إيطاليا Unità d’Italia وهو المصطلح الآخر الذين يطلقونه على هذا التيار لأنه كان من أهداف هذه الحركة الفكرية. ولكن ماذا يعني انتقال العاصمة إلى روما؟ هل كانت هناك عواصم أخرى قبل روما بعد توحيد إيطاليا؟ نعم. كانت أولى عواصم إيطاليا الموحدة هي مدينة تورينو شمال إيطاليا، إذ كانت تقع تحت إمرة الأسرة الحاكمة لمملكة ساردينيا، آل ساڤويا، ونظرًا لأنه مع الإعلان الملكي بتوحيد إيطاليا لم تكن روما قد دخلت حيز الأراضي التي وحدتها الحركة التي عملت على ذلك حينها عام 1861. فقد حصل الملك ڤيتّوريو إيمانويلِه الثاني على أقاليم محددة منها لومبارديا وجنوب إيطاليا وجزءًا من وسط إيطاليا بعد الحرب الثانية لتوحيد إيطاليا، كما أطلق عليها في تلك الفترة إذ كانت هناك محاولة حرب أولى لتوحيد إيطاليا قبل ذلك لم تكلل بالنجاح. وكان ذلك بفضل الحملة العسكرية المعروفة بحملة الألف (إذا كنت تضم ألفًا من المقاتلين)، بقيادة المناضل والقائد التاريخي لهذه الفترة چوزيــپّــه جاريبالدي Giuseppe Garibaldi، وقد أطلق اسمه على شوارع كثيرة جدًا في جميع أنحاء إيطاليا بمدنها المختلفة. ورغم كل ذلك ظل إقليم لاتسيو في أغلبه وروما عاصمته تحت الحكم الباباوي للكنسية الكاثوليكية، وكان حليفًا للكنيسة آنذاك ملكن فرنسا نابليون الثالث حفيد نابليون بونابرت، وقد سعى لتأمين روما للكنيسة فدعا إلى عقد اتفاقية عرفت فيما بعد بمعاهدة سبتمبر وفيها تم الاتفاق على نقل العاصمة الإيطالية من مدينة تورينو إلى مدينة فيرنسِه Firenze أي فلورنسا، وفقًا للمعاهدة المنعقدة يوم 15 سبتمبر 1864، وبالتالي كان من المفترض أن تظل مدينة فلورنسا هي عاصمة المملكة الإيطالية الموحدة حديثة العهد، ولكن لصغر المدينة وبسبب الرغبة الملحة لدى الإيطاليين في ضم روما إلى المملكة الموحدة الحديثة وعلى عكس ما تم الاتفاق عليه مع نابليون الثالث، سعت إيطاليا الموحدة حديثًا إلى ضم روما وحاولت كثيرًا إلى أن نجحت في ذلك عام 1870. وفي عام 1871 أصبحت روما عاصمة المملكة الإيطالية الموحدة واستمرت عاصمة لإيطاليا الحديثة حتى يومنا هذا، عدا فترتين قصيرتين في ظروف الحرب العالمية الثانية لخصوصية الظروف تلك فأصبحت مدينة برينديزي Brindisi بجنوب إيطاليا في إقليم پوليا Puglia منذ 8 سبتمبر 1943 إلى فبراير 1944، ثم في فترة وجيزة أيضًا نالت مدينة ساليرنو Salerno شرف أن تكون عاصمة لإيطاليا، إلى أن دخلت القوات الأمريكية في إيطاليا وسيطرت على الوضع فأعادت إلى روما سلطتها بصفتها عاصمة لإيطاليا بين الرابع والخامس من يونيو عام 1944. وإن كان هذا الأمر لا يذكر إلا قليلًا جدًا.
كل هذا على الصعيد السياسي كان له بالغ الأثر على مختلف الأصعدة الأخرى، بما في ذلك الصعيد الاجتماعي والصعيد الثقافي والأدبي؛ فقد كان لمفكري تلك الحقبة اتجاهات بين معارضين ومؤيدين لتوحيد إيطاليا وإن كان أغلب ما تم تدوينه في كتب التاريخ والثقافة وتاريخ الأدب يميل إلى التوحيد، وبرزت أسماء لأدباء كثر كتبوا عن موضوع تلك الفقرة ومبادئها واتجاهاتها ومزاياها وعيوبها أيضًا. ونجد أدباء ومفكرين مثل ماسّيمو داتزيليو Massimo D’Azzeglio وهو رجل السياسة والفكر والأديب وصاحب العبارة المشهورة عن الإيطاليين في تلك الحقبة: “لأن الإيطاليين أرادوا أن يصنعوا إيطاليا جديدة وأن يظلوا هم الإيطاليون القدامى بخيباتهم وبؤسهم الأخلاقي، وهي العناصر التي كانت سببًا في نكبتهم قديمًا؛ لأنهم يفكرون في إصلاح إيطاليا، ولا أحد ينتبه إلى أنه للنجاح في ذلك فعليهم أولًا إصلاح أنفسهم”. وكان بتلك العبارة يرد على سبب قوله أن الإيطاليين خطر على إيطاليا أكثر من غيرهم.
وظهر أعلام من أدباء إيطاليا ومفكريها في تلك الفترة ومنهم مثلًا فرانشيسكو ديه سانتيس Francesco De Santics، وهو أول من كتب كتابًا لتاريخ الأدب الإيطالي عام 1870، وكذلك الآب والمناضل الوطني أنطونيو ستوپّاني Antonio Stoppani الذي نشر كتابًا بعنوان البلد الجميل Il Bel Paese عام 1876، وهو اللقب الذي يُطلق على إيطاليا حتى الآن، ويعرض فيه المؤلف الخصائص المختلفة لإيطاليا وشعبها والعناصر البشرية التي باتت مشتركة في أرض موحدة وإن كانوا لا يزالوا غرباء فيما بينهم. ثم جاء العمل المشهور بينوكّيو Pinocchio عام 1881 لكاتبه الذي حاز شهرة عالمية كارلو كولّودي بهذه النوعية من أدب تكوين النشء. ثم جاء بعده بخمس سنوات ليلحق به كتاب “قلب” Cuore عام 1886 للكاتب الإيطالي إدموندو ديه أمتيتشس Edmondo De Amicis. وقد ترجم هذان الكتابان إلى العربية أكثر من مرة، علاوة على ترجمات عديدة إلى لغات مختلفة.
كانت هذه مجرد أمثلة وليست على سبيل الحصر، كي نكون صورة بانورامية عن تحول إيطاليا بعد أن كانت ممالك متصارعة إلى دولة موحدة، وكان هذه بداية لحقبة تاريخية وثقافية وأدبية ستتغير فيها الملامح تدريجيًا وحتى اللغة التي كان ينتج بها الأدب، وهو الموضوع الذي يتطلب مساحة أخرى لعرض مسألة اللغة والهوية والثقافة كيف أخذت في تطورها والالتقاء بعدما كانت متفرقة ومتباعدة وما أدى إليه هذا التنوع الجغرافي التاريخي الذي أصبح يشكل كتلة واحدة تحت اسم إيطاليا الموحدة سواء في عصرها الملكي أو بعد إعلان الجمهورية.