لغة العباسة بين المعيارية والاستعمال
الدكتور أحمد فرحات
يقدم الشاعر المصري محمود حسن أدبا إنسانيا رفيعا، لا لما يقرره من حقائق أو ينقله من معارف أو يحققه من فوائد علمية؛ بل لما يعرضه من نواح جمالية وقدرات على تنمية ذوق رفيع. وتكون القصدية في الإمتاع هدفا أصيلا يسعى للظفر به( ).
فبعيدا عن مسألة تجنيس العمل الأدبي، والقصدية في الخلق، فإن النص الأدبي يمثل ذاته من حيث الموضوع والوسائل التعبيرية، والغرض منه وأهميته، إذ يظل النص مؤثرا في الجمهور مبتغيا البقاء والخلود عمرا أطول من عمر الخالق الأصلي له.
وإذا كان الوزن أحد أهم مكونات الشعر التأسيسية له فإن الحوار يعد أحد أهم مكونات المسرح، وأن أي خلل في المكونين يشوه العمل الأدبي المنسوب إليهما، وقد يخرجه من دائرة اهتمامه، وإذا ما فحصنا الأعمال الفنية المنسوبة إلى الشعر المسرحي، أو المسرح الشعري فإن العباسة لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك؛ بناء على السمات المؤسسة لكل جنس من الجنسين السابقين.
فالعباسة( ) لمحمود حسن ليست مسرحية، لانتفائها أحد أبرز سمات المسرح وهو الحوار، كما أنها ليست رواية ولا قصة لافتقادها المكونات الأساسية للعمل الروائي، وهو الحبكة والصراع، وإن تعددت الشخصيات والأحداث. وبما أن العمل الفني يقوم على الوزن فإنه يقترب كثيرا من دائرة اهتمام الشعر لكونه أصلا لكل أنواع الفنون التعبيرية وغير التعبيرية. وبناء على ما سبق فإن العباسة ديوان شعري متعدد الأصوات، متشابك الأزمنة والأمكنة.
الأهم من قضية الجنس الأدبي-في رأيي- هو الجانب اللغوي، وقدرة الشاعر المعاصر على خلق لغة جديدة وفق رؤيته هو، لا وفق اللغة المعيارية في المتن اللغوي الثابت، شريطة أن ينحو بلغته إلى الشعرية. ومما لا يدع مجالا للشك فإن محمود حسن استطاع أن يؤسس للغة شعرية ذاتية تنهض على مكونات تراثية، حداثية،عامية،عصرية عن طريق الاستعارة، أي استعارة بعض الألفاظ العصرية غير القارة في المتن اللغوي المعياري.
وقع محمود حسن في اختبار صعب مع نصه، فهو إما أن ينتقي ألفاظا معجمية عتيقة كالتي كانت تستعمل في ذلكم العصر، وإما أن ينتقي ألفاظا عصرية تعبر عن روح عصره وواقعه المعاصر، وذلك من أجل اختيار لغة خاصة، لغة شعرية تتعارض مع لغة الاستعمال اليومي، وعن هذه اللغة الخاصة يشير هيجل إلى أن الشاعر ” إما أن يلجأ إلى الألفاظ العتيقة، أعني إلى ما هو قليل الاستعمال في الحياة العادية أو يصنع ويبدع كلمات جديدة، وبهذا يتبدى عن كبير جسارة وعظيم قدرة على الاختراع، بشرط ألا يضع نفسه في تعارض مفرط مع روح اللغة”( )
ولقد انتقى محمود حسن مفرداته في الغالب من معجم معاصر، لم ترد في المعجم القديم، استعارة من لغة الصحافة أحيانا، أو اللهجة العامية، أو لغة الاستعمال اليومي، أو ما شابه .. ولذا وردت بكثرة كلمات مثل:
أفيون/حشيش/ كرباج/ طربوش/ مانشيت/ رخ / الياقات الزرقاء/ طابور خامس/ بصاصين/ الركية/ الطست/ دكتاتور/التخشيبة/ عميل مزدوج/ إقامة جبرية/صداع نصفي/مغص كلوي/الزائدة الدودية/ الدستور/ الرقم القومي/ ..
هذا، ولم يقف الشاعر في انتقائه إلى الكلمات العصرية فحسب، بل رجع إلى الكلمات العتيقة كقوله عن أبي إسحاق: مجلت كفاه وهرّأ شوك التيه عظام الركبة، جرح رجله…
مجلت كفاه: تقرحت
هرّأ:اشتد
وليس المقصود باللجوء إلى العتيق أن يلجأ المرء إلى الحوشي والغريب؛ إنما أن يعنى باختيار الألفاظ التي لم يبتذلها الاستعمال، ولم تصقلها الألسن الجارية في أحاديثها اليومية( ).
ونرى أن الشاعر وفق إلى حد كبير في خلق إيقاع موسيقي منسجم مع هذه الألفاظ أو تلك، وجاءت جميعا عبر إطار نغمي متوائم. لم يشعرنا الشاعر بنبو أو اضطراب أو خلل أو أي تشويه يمكن أن ينشأ من استخدام هذه الألفاظ أو تلك. وبذلك يكوّن الشاعر لنفسه معجما خاصا أو قل لغة خاصة تعبر عن روح اللغة المعيارية، ولا تنساق في إطارها، وبذا تتجدد اللغة؛ فاللغة لا تتجدد من تلقاء نفسها بل بتفاعلها مع الأشياء، والقصيدة لا تتجدد بحوارها مع مثيلاتها؛ بل بحوارها مع الحياة( ).
والفرق بين هذه الألفاظ العصرية الجارية في الاستعمال اليومي وهي نفسها إذا ما استخدمت في الشعر كبير، فإن الناس يستخدمونها في حياتهم من أجل وظيفة تواصلية نفعية، أما في الشعر فإن الشاعر يستخدم لها وظيفتين: الأولى تواصلية نفعية والأخرى جمالية شعرية، فتخرج من العموم إلى الخصوص، ومن الجماعة إلى الفردية والذاتية، وبها يحقق الشاعر مأربه ومبتغاه، في ابتكار لغة جديدة تنضاف إلى اللغة المعيارية بكثرة استعمالها لدى الشعراء الراغبين في التجديد والتطوير.
ومحاولة الشاعر محمود حسن في تطويع اللغة وتجديدها جعله يصطدم بالنظام المعياري، ويصارع أتباعه فيما أطلق عليه القدماء الضرورة الشعرية كمنع المصروف، أو صرف الممنوع، أو كسر قاعدة نحوية معروفة، أو توظيف اللغة المعيارية توظيفا متناقضا مع أهلها وأتباعها في جرأة وجسارة غير معهودة لدى الشعراء.
ففي قوله:
- يقظانا وينام على حجرك تلميذك يا يحيي
- في القصر شياطينٌ رسل وملائكة خبثاء
- أشهد أن ما ارتفعت من هارونٍ في وجهي يده
- يشهد ذمي ما هدت دولة هارونٍ معبده
فهذه الكلمات المخطوطة ممنوعة من الصرف، لكن الشاعر استعان بالضرورة وصرفها دون داع، فالبحر الموسيقي لم يجبره على صرف الممنوع، أو العكس، ولا امتطاء الشعر الحر(التفعيلة) بمضطره أن يصرف ممنوعا، فالأمر في سعة وليس ضيقا حتى يضطر، ويصطدم مع القاعدة وإن كان من مسوغ له فهو في الميزان الصارم لعدد التفعيلات في كل شطر، فيلجأ إلى كسر القاعدة اضطرارا.
فلولا جسارة الشاعر ورغبته الحقيقية في التجديد وفي خلق لغة شعرية خاصة تختلف عن اللغة المعيارية لما لجأ إلى الاضطرار أو كسر القاعدة المعيارية.
وإذا كان الجمال هو الطلاقة والحرية والانفلات من أسر الأطر والقوالب والتصورات التي تغلف المادة والوجود من حولنا، فإن الوقائع الأسلوبية المنحرفة عن الإطار اللغوي الثابت تمثل جمالا فنيا متجسدا في الشكل والصرف والمعجم والدلالة ولعل هذا الجدل المحتدم بين الحرية الإبداعية والضرورة القواعدية، بين الإثبات السائد الشائع، والنفي الهادم الخالق، لعل ذلك أدخل بإشكالية الحداثة في الخطاب النقدي المعاصر .. كان لها أكبر الأثر على التجريب في الخطاب الشعري المعاصر( ).
هذا، ولا نجيز للشاعر الخلط بين التذكير والتأنيث في اللغة إلا لضرورة فنية تسوغ له ذلك، تأمل معي هذه النماذج مما ورد في العباسة:
ألقاني المهدي بقعر البئر المظلم بضعة أعوام
لم أتنفس غير هواء البئر العطنة
صدقني يا جعفر.. البئر المظلم والمنتن عندي ..
فكلمة البئر مؤنثة في الأصل اللغوي وقد وصفت مرة بالمذكر وأخرى بالمؤنث دون حاجة فنيىة إلى ذلك، مما أصاب البناء اللغوي بالهشاشة. ومثل ذلك يقال على قوله: والسبعة أعوام في كل زمان ومكان سبعة أو قوله: صار اللامنطقَ منطقَ والسخطُ رديفا .. ففي الجملة الأولى لا يُعَرَّفُ العدد، والتعريف يكون للمعدود(سبعة الأعوام) ، وفي الثانية صار اللامنطقُ منطقا، وعليه أن يبحث بديلا لإقامة الوزن.
توظيف بعض اللوازم الأسلوبية
استثمر الشاعر محمود حسن طاقة اللغة الشعرية في عمله برمته بدءا من الحروف، والكلمات، والتراكيب، لمنح الصورة الشعرية المتغياة كل فائدة مرجوة من اللغة. فوقف على استثمار حرف الكاف كحرف مهموس، وكأداة من أدوات التعبير الأسلوبي، معبرا عن حالة انفعال وتوتر للطفلة(العباسة) عندما خفق قلبها للوهلة الأولى بحب جعفر.. في قوله:
ذات صباح جرحت كفي؛ حين لقطت الوردة شوكة
وصرخت بأعلى صوت الطفلة حتى،
لكأن الأرض انفتحت، كي يخرج جعفر
طفلا مرتبكا، ويشد الشوكة من كفي،
وبفمه، حتى شكّت فكّه.
فقد تردد حرف الكاف تسع مرات، منهما مرتان جاء مضعفا، في مساحة شعرية صغيرة، أي أن الحرف تردد إحدى عشرة مرة، حمل أثناء نطقه مكررا نغمة خروج الحرف الشديد المهموس صوت انفعال وتوتر عاليين، يحاكي صوت كركرة الأطفال ولهوهم. وإذا أدركنا أن حرف الكاف من صفاته الشدة ثم يعقبها الهمس، وهذا ما جعل الشاعر يتكئ على هذا الحرف في ذاك البناء الشعري الدال على الشدة الناتجة من توالي حرف الكاف وتتابعه بشكل لافت يلقي بظلال مرادفه اللغوي على المراد الدلالي الكامن في حركة الطفل وتأوهه جراء الشوكة المنغرسة في لحمها ثم يعقب ذلك أن أخرجها جعفر بأسنانة وملامسته لحمها وانتزاعه الشوكة، ثم همس الطفلة له بلغة لايفهما سواهما.
يلجأ الشاعر إلى حرف العطف الواو مستنبطا منه أقصى غاية لنقل الصورة، وتقريبها للمتلقي، تأمل قوله:
في القصر خمور ونساء عارية وفجور وغناء
وسجود وقيام وصيام وقراءة قرآن وبكاء في القصر العزة والذلة
وملابس متسخات وأناقة حلة
في القصر شياطين.. رسل.. وملائكة خبثاء
ففي المشهد الشعري السابق استثمار لطاقة الوصل بواسطة الحرف، فعن طريقه اعتمد الشاعر على الحرف كبديل للكاميرا، فعليك أن تتخيل تجاور كل ما في القصر من خمور ونساء عارية وفجور وغناء ووو، وهي مفردات احتشدت معا لتكون صورة كلية للقصر وما يدور فيه من أحداث ورؤى بصرية وغير بصرية لتتأسس من خلالها لغة شعرية خاصة لها خصائصها في بناء مفرداتها وإنتاج دلالاتها.
الصفات والنعوت:
تقدم الصفات والنعوت جزئيات وإضافات تفصيلية إلى الجملة الشعرية تتفجر من خلالها، وتتوزع إلى تفصيلات مهمة تتآزر جميعا في خلق صورة معبرة عن مضمون الصورة وإيحاءاتها، ومن خلال الصفة يمكن قراءة الصورة الشعرية بتفصيلاتها الجزئية ذات القيمة في إيصال الرسالة .. تأمل معي:
وظللت أردد والسكين الساخن في عنقي
هل نازعتك سلطانك يوما، وأنا امرأة عربية
فاعلم أن الشَّعر الأبيضَ في رأسك عيدان
الشعر هو الثورة، والفعل الفاضح في الطرقات العامة، والصوفي الفاجر..
.. إن الشعر هو الإيمان الكافر
فما عليك إلا تبحث في الجمل الشعرية السابقة عن الصفات والنعوت، وترصد الإضافة الحقيقية لفعل السكين الساخن، وامرأة عربية، والشعر الأبيض، والفعل الفاضح، والصوفي الفاجر، والإيمان الكافر.. لتتفجر أمامك طاقة كبيرة من الأثر والصدى للصفات المتتابعة، وربما المتناقضة الناشئة من التكريس لهذه الصفات التي من شأنها أن تشق نطاق المعنى المجرد الذي يدل عليه الاسم فتحدد منه أكثر فأكثر وتكشف معالم صورته العيانية بطريقة أكثر جلاء( ).
لو الشرطية الامتناعية:
يمكنك أن ترصد استخدام (لو) الامتناعية في شعر محمود حسن، ويمكنك الوقوف أمام حرص الشاعر على تأخر جواب الشرط، ليجيء بعد مسافة شعرية طويلة نسبيا، وتترك نفسك تفكر في مقصدية الشاعر من التأخير المتعمد للجواب، ثم تدفق الجواب مكررا بأكثر من صيغة، لتدرك على الفور أنك أمام إنتاج دلالات مختلفة للمعنى الواحد. اقرأ معي هذه القطعة الشعرية، وتفكر في تدفق الدلالات الناتجة عن التأخير المتعمد:
لو أني أعلم أن السيف إلى عنقي
ونكاح العينين العاشقتين يرسخ
في دولته كذبه
أن رجولة جعفر يا أمه
إن مست جسد العباسة في حل
يتسكر عظم الرقبة
كنت كفرت بهارون رضيعا وخليفة
وقطعت يديك شممت رغيفه
كنت عقرت حصانه
لغة الإشارة ولغة الانفعال
يستدرج الشاعر محمود حسن في عمله لغة الإشارة تارة، ولغة الانفعال تارة أخرى، ويحاول جاهدا أن يمزج بين المباشر وغير المباشر، بين التصريح والتلميح، في إطار من الدهشة والتميز تطفي على اللغة خاصية إنتاج دلالات جديدة للمعنى، فهو إذ يقدم نصه يهديه إلى الإنسان في العموم، ونجد هذه السمة الإنسانية في غالب أوصافه وصوره وتراكيب لغته، فهو غالبا ما يعزي جملته الشعرية إلى ذلك الكائن المخبوء في ضمير كل حي.. يمكنك التقاط كلمة الدولة وتلاحظ ما يصبغه الشاعر عليها من معان إنسانية عامة، فهي ليست دولة دينية، ولا عسكرية، ولا.. فيقول:
عقد مشاركة وقعه أطرافه..
لا غبن فيه ولا سلطات أزلية
أو تفويض مفتوح وتمرد
فالجملة الشعرية رغم مباشرتها المعنى فإنها تجنح إلى العموم المطلق الذي يستوي فيه الإنسان. وكذلك قوله:
ما أعظم بيت الفخار، نقاء الأرض الحبلى بالمطر النازل من جنات، يملك مفتاح سحابتها ريح رباني..
وهو في سبيل الرجوع باللفظة إلى النبع البكر لها يخلصها من أي دلالة سابقة أو لاحقة عليها، ويظهر لك دلالة مجردة منبعها البكارة والإنسانية فتأمل قوله:
لو أنك جئت إلى المحراب بوقت صلاتي منفردا
كنت أثمت حلالا ما ألقيت البال إلى العظة
تجد الألفاظ (المحراب/الصلاة/العزلة/الإثم/الحلال/العظة) قد عادت إلى مرجعيتها الأولى وتجلى فيها موقف الإنسان البكر بضعفه وجهله ونزقه. فإذا ما ربطنا ذلك كله بكلمة الإهداء التي قدم بها العمل الإبداعي(إلى الإنسانية) وجدنا الإنسانية بظلالها وأصدائها تمر عبر نسغ الجمل والتراكيب والصور.وتأكيدا لفكرة الإنسانية ذاتها نقرأ الكلمة بظلالها المختلفة عبر نسيج العمل برمته؛ فيقول:
هل تتخيل إنسانا بشرا في بضعة أعوام
لم يلبس إلا الثوب الواحد والسروال الواحد
وبدون حذاء
العمل الإبداعي برمته حالة من التوتر والانفعال والاضطراب والقتل والعاطفة وكل هذا من شأنه اللغة الانفعالية المموسقة، والانفعال غالبا ما يكون موزونا، ولا يعبرعن نفسه تعبيرا كاملا إلا بالألفاظ الموزونة والأصوات ذات التوقيع النغمي، ومن ثم لجأ الشاعر إلى الموسيقا، ظاهرة وخفية، خارجية وداخلية، واعتمد الوزن الموسيقي والقافية، حتى لو لم تكن بانتظام.
وهو في سبيل رصد أهدافه المتغياة من العمل يروم وصولا به مبرءا من مثالب الوقوع في شرك الفحش والابتذال، الناجم من التعرض لمواقف غاية في الحساسية، نراه يجنح إلى الإشارة، ففي الإشارة تفجير لكوامن النفس الإنسانية من رغبات وأحاسيس دفينة. تأمل معي الإشارة في قوله:
أتأمل هذا الوجه الأنثى، فيحدثني المرمر والنهدان
وممارسة الحب مع امرأتي منعت حتى في الحلم
لكن عيناك توجهتا تلقاء عيوني.. أقلقتا قلبا لم ينبض يوما، أخرجتا أنثاي المخبوءة في بضع ثوان.
تؤدي الإشارة هنا عملا جوهريا في النص الشعري، لأنها تكون سريعة وخاطفة، لكنها تفجر كثيرا من الطاقات والإيحاءات النفسية، وتثير في نفسية المتلقي تصورا كاملا للموقف من خلال الإشارة إلى كلمة محددة، هي أشبه ما تكون بالإبرة سريعة وخاطفة لكنها تفجر الدماء. فالعمل الفني القائم على التصريح عمل هش ضعيف مبتذل، مهما قيل عن توظيف التصريح فنيا، فهو عمل يدغدغ العواطف، وربما يثير الاشمئزاز. وإن من يراجع أعمال الشاعر محمود حسن-في جملتها- فسيجد أنه أمام عمل نظيف، خال من الابتذال ودغدغة المشاعر والأحاسيس. وهذه سمة الأداب الرفيعة دائما.
الخلاصة:
ينهض العمل الأدبي عامة على التجريب، ومحاولة التجديد لها أكثر من جانب، والجانب الذي ألقينا عليه الضوء في هذه الدراسة هو الجانب اللغوي، وهي محاولة محفوفة بالمخاطر غالبا لأنها تصطدم بالأفكار الجامدة عند عتاة اللغويين الأصوليين المتشددين. وجناحا التجديد فيما رأينا تتمثل في توظيف الكلمات العصرية الجارية في الاستعمال اليومي، ومحاولة بث الروح في توظيف كلمات عتيقة لم تعد تستعمل، أو محاولة توظيف كلمات جديدة عن طريق الاشتقاق والنحت، كمحاولات تجريبية ينتج من خلالها تجديدا حقيقيا للغة، ومن ثم إضافة شعرية خاصة إلى اللغة. كما رأينا في شعر محمود حسن خلاصا من رتابة اللغة المعيارية في المتن اللغوي العربي، وتقديم نموذج شعري قايم على التجريب اللغوي، وهي محاولة نراها ناجحة بامتياز، من أجل الارتقاء بالذوق الرفيع، لخلق أدب عظيم.