لبنى ” أم لبانة “…!
بقلم: الأديب حمادة عبد الونيس
في شارع الحدادين يعرفها القاصي والداني من سلاطة لسانها وحدة طباعها أقسمت لتخرجن زوجها عبد ربه المتعوس على ظهره فكان لها ما أرادت !!
لم تكن امرأة من جنس النساء بل كانت عفريتة من العفاريت الزرق تزوجت أول زوج لها وهي ابنة خمسة عشر خريفا فلم يذق معها للهناء طعما بل فضحته على رؤوس الأشهاد !
سلك كل السبل إرضاء لها لكنها علمت موطن دائه فتعمدت أن تدوس وجيعته دون شفقة أو رحمة !
لها قد مياس وعينا مها وخصر رئم رشيق ،تأرن كمهر يخطو تيها وخيلاء !!
كل من رآها تاه في حدائق عينيها تمنى أن يلثم العنقود المتورد الذي ينبض بالسحر !
لكن المساكين كانوا كعصافير ورهاء تهافتت على الحبة تهافت الفراشات على النار ولم تبصر الشبكة التي يسكنها الموت !
خراجة ولاجة تدني من تشاء وتقصي من تشاء لا تخشى عيبا ولا فضيحة ،العرق دساس وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا من ثدي الناقصات ؟!
مات زوجها الأول سطوحي الفران حسيرا مصابا بالسكتة الدماغية؛حدثه أقرانه وجيرانه كثيرا في شأنها لكنه لم يعرهم اهتماما وركب متن شططه كلما جاءها دخلت عليه بالحنجل والمنجل فأنسته عقله وأفقدته صوابه :
ضاحكة في خبث :أم لبانة تقضي لك لبنات فؤادك المعذب !
لكن ادفع تنفع ؛أبرز تنجز !
حتى كانت الليلة الموعودة التي عاد فيها بعد يومين متواصلين من العمل الشاق داخل فرن “العيش ”
وما كان مواصلته العمل بإرادته وإنما نزولا منه على رغبتها فقد أوهمته بأنها حامل وطلبات البيت في زيادة !
محملا بأكياس الفاكهة والحلوى رغم تعبه ،صاعدا السلم يتراقص طربا وسرورا :
زوجتي حبيبة قلبي ،أم ولدي الذي طال انتظاري له !
كذبت ظن الأفاكين الذين لا يرجون لي الخير!
يدق الباب ،تتأخر في فتحه ،ينادي برفق لعلها تكون نائمة فهي حديثة عهد بحمل وللحمل مشقته وخصوصا في البدايات !
يسترق السمع يتحسس وقع قدميها لعلها قادمة لتفتح فإذا به يسمع ضحكها المتواصل وغنجها وكلمات تخرج من فيها عربدة وشبقا ويسمع خدينها يبادلها الشهوة كاسات وعبارات تنضح سفالة وبذاءة لم تستطع رجلاه حمله فيخر مغشيا عليه لتسلمه درجات السلم إلى الدور الأسفل مخضبا في دمائه وقد لفظ أنفاسه !!
تخرج الكاتعة صاحبها نجس الذيل وتغلق باب شقتها نائمة في سريرها يعود بعض الجيران ليلا فيجدون زوجها جثة هامدة ،فيأتيها الخبر فتستقبله استقبال الصواعق المزلزلة فتلطم خدها وتشق جيبها وتصرخ بالصوت الحياني !!
يخرج أهل الحي محوقلين مهللين يسترجعون!
إلا نبوية بائعة الخضار التي كانت تسكن السطوح لم تحرك ساكنا انتظرت حتى انفض السامر ونزلت إلى أم لبانة :
إياك أن تحسبي أني يمر علي الأمر كما مر على غيري!
سأوصلك لحبل المشنقة بيدي !
وما أكملت حديثها حتى انقضت عليها الكاتعة تكتم أنفاسها !
اسمعي أيتها العجوز الدميمة ،نعم أنا السبب في موت زوجي !
لكن هل معك دليل ؟!
لن يصدقك أحد ؛تعلمين علاقاتي ومعارفي،رنة خلخالي يقف لها أعظم انتباها!
أعرف طريقي جيدا وأحسن السباحة فيه لكن قسما عظما لو نطقت بكلمة لأفصلن رأسك عن بدنك !
وخافي على ابنتيك اليتيمتين أحسني إليهما ودعي الملك للمالك !!
مرت الأيام وذهب لخطبتها خلق كثير بالرغم من معرفة معظمهم بأنها فتاة ليل !
لكن الناس فيمن يعشقون مذاهب ؛منهم من يعشق للجمال ومنهم من يعشق للأخلاق ومنهم من يعشق للمال لكن الذين أحبوا لبنى لم يكونوا غير مريدين لكبح جماحها وكسر شوكتها لكنها كانت أشد منهم بطشا وأسرع مكرا !
كانت تمنى كل واحد من قاصديها وتظهر له أنه المحبوب المرغوب وكل من سواه يضرب بالمركوب !
يأتيها الرجل وكيسه مملوء بالأموال تجري العافية في جسده جريان الشلال يصب في النهر فيمكث عندها الأسبوع والأسبوعين فيخرج شاحب اللون أصفر اللون خالي الوفاض لا مال معه لا يكاد يتبين معالم الطريق !
ثار الأهالي ثورتهم وكلما قدموا بلاغا تم حفظ البلاغ لايدري أحد من وراء هذا العبث !
لم تكتف أم لبانة بنفسها ولم تكف عن المساخر والسقوط في بئر العفن فاستدرجت بعض البنات بمعسول كلامها وكثرة أموالها ووعدتهن بحياة وردية لا تعب فيها ولا نصب !
فاحت رائحتها حتى زكمت كل الأنوف فجاءتها الشعرة التي كسرت ظهر البعير !
يممت وجهها شطر المول الشهير في وسط البلد وجعلته مركز نشاطها إذ لم يعد شارع الحدادين يشبع نهمها وتعطشها لجمع البيضاء والصفراء ؛نصبت شباكها حول فتاة طلبها أهل المدينة وخصوصا بعض تجار الآثار الوافدين من الخارج في ثياب المستثمرين الأجانب رجال الأعمال !!
الفتاة تسمى “زهو” ووالدها رجل من جهة سيادية قد ألحقها بالجامعة الأمريكية قسم إدارة الأعمال !
تتعامل زهو برقة متناهية وبراءة منقطعة النظير وهذا ما جعلها مطمع الذين أعماهم حب الشهوات عن اتباع نور الحكمة !
اقتربت لبنى من زهو وعرضت عليها :قطعة أيس كريم “في رقة واستعطاف تكذب عليها بأنها تعرف أباها فقبلتها زهو شاكرة لها ذوقها ومشاعرها الطيبة تجاه والدها فهو رجل دولة محب للوطن وناسه الطيبين !
عند المساء كان اجتماع الأسرة الأسبوعي مع السيد الوالد فقصت “زهو” على والدها ما كان من مدام لبنى وكم هي إنسانة رقيقة تحفظ الجميل !
ساور الوالد الشك فهو لم يعرف أية امرأة بهذا الاسم !!
أخرجت زهو هاتفها وعرضت صورتها على أبيها تريد أن تذكره بها لعله لكثرة مشاغله قد نسيها !
فلما رأي صورتها مادت الأرض به وشعر بدوار يكاد يخطف بصره !
استأذن أولاده لينال قسطا من الراحة إذ إنه لم ينم من يومين !
من داخل حجرته اتصل اتصل برئيس مباحث الحدادين وأعطاه أمرا بعمل تحريات عن مدام لبنى ولم تمر سوى ليلة واحدة حتى كانت لبنى ماثلة أمام النيابة للتحقيق معها في التجسس لصالح جهات أجنبية وتجارة الرقيق وإدارة شبكة عالمية منافية للآداب!
نظرت لبنى المحقق في ثقة وثبات :
بعد إذن معاليكم هذه اتهامات كاذبة والمتهم بريء حتى تثبت إدانته !
يتعجب المحقق من جرأتها موبخا وقبل أن يسبها قاطعته:
لوسمحت يا باشا ،كلنا أبناء تسعة ومن فضلك اتصل بعلى باشا الزنطحاوي !
ما كاد يسمع هذا الاسم حتى تصبب عرقا وجف ريقه ولم ينبس ببنت كلمه فأخلى سبيلها في الحال !
في المساء تتلقى اتصالا في حدة وشدة ،ترد متغنجة:عايشة على حسك يا باشا الباشوات!!
-لمي نفسك فقد فاحت رائحتك ولم يكن هذا ما اتفقنا عليه ،غادري المكان حالا ،غيبي عن الأنظار حتى ينساك الناس فالأمور غير مستقرة وغير مبشرة !
ابتلعتها غياهب الظلمات فلا حس ولا خبر !
فما كانت لاتستطيع مخالفة الأوامر العليا وإلا تخطفتها الطير أو أكلتها السباع فما بكت عليها أرض ولا سماء !
تتصدر صورها الجرائد :
ماتت قاتلة الرجال ،حسناء الحدادين تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت عجلات القطار في ظروف غامضة !!
يتواصى أهالي الحي بذبح جملين وعمل مأدبة للفقراء والمساكين شكرا لله الذي خلصهم من أخطر امرأة عاشت بينهم بالإكراه سنين عددا !
متخفية في زي بدوية تقطن لبنى إحدى ضواحي الجيزة ،تأسرها حياة الباعة الجائلين،تطرب لصوت النساء وهن ينادين الزبائن للشراء منهن !
حمراء يا قوتة،مليج يا خس ،شنواني يا قلقاس!
لكن أشد ما لفتها ذلكم الفتي الصعيدي الأسمر مفتول العضلات يركب دراجته يبيع البطاطا الساخنة !
انجذبت إليه انجذاب المعدن للمغنطيس فأسرعت نحوه وقد أرخت “ملايتها”اللف صباح الخير يا سيد الناس !
رد السلام غير ناظر إليها !
يوزع البطاطا على الزبائن !
استشاطت غضبا ؛أنا لبنى التي يعمل لها الجميع ألف حساب لايعبرني هذا الصعيدي؟!
رد السلام واجب يا “بلدينا “!
ردينا والحمد لله ،أية خدمة !
هات قطعة بطاطا بخمسة !
اتفضلى!
تتعمد لمس كفه فتنتفض كالطير بلله القطر !
أصابع يديه كالجزر الأحمر يتدفق الدم في شراينها حيوية ونشاطا!
لزمت المكان ،تبيع وتشترى لا رغبة منها في الكسب لكن إرادة منها أن تكون إلى جواره!
كل يوم تشاغله لكنه غير ملتفت إليها فهو كالصارم البتار لا يعرف إلا عمله ولا يسعى إلا لتأمين مستقبله !
عمدت إلى السوق فاشترت لحما وسمنا وأعدت له براما معمرا وحملته إليه :
هذا من عمل يدي بالهناء والشفاء ويا رب ،طبخي يعجبك !
شكرا جزيلا ،كثر خيرك !
لا نأكل من غريب !
ما غريب إلا الشيطان !
وسيدك الحسين ما ترد يدي !
يقبلها على مضص !
في اليوم التالي يشكرها،تصارحه :
لا أرى في المحروسة كلها رجلا سواك !
ولن تتزوجك امرأة غيري !
لست مستعدا للزواج الآن !
ورائي أهلى وأخواتي أعمل على سترتهن أولا ثم إن أبي تكلم مع خالي وقرأ معه الفاتحة على أن فاطمة ابنته لي وأنا لها وهذه عهود ومواثيق لا يحلني منها إلا الدم !
سأفرش الأرض مالا تحت رجليك ،سأجعلك أكبر تاجر في الجيزة ،لكن لن يأخذك مني أحد !!
هش لها وبش وبعدها بالزواج !
فتركته مسرعة إلى شقتها وقد أخذت منه وعدا بأن العشاء سيكون عندها الليلة !
الطريق أمام ناظريها مفروش بالورود والرياحين لا تسمع إلا الموسيقى الحالمة شعرت وكأنها ولدت من جديد !
تناول العشاء معها فحنت إلى سيرتها الأولى فارتمت في حضنه فحملها بين ذراعيها وطوح بها حتى غارت بها بطن السرير فأخذ طرف جلبابه بين أسنانه ولاذ بالفرار فكأنها طعنت بألف خنجر !
يا شاذلي يا حبيب قلبي عد يا نور عيني !
في جنح الليل ابتلعه القطار وضرب عليه النوم حجاب فما أفاق إلا على محطة سوهاج مع أذان الفجر كان في بيت والده الذي عاد من صلاة الفجر لقبل ولده ويضمه إليه :
أنت ابن حلال يا ولدي ؛كنت معي في المنام وحاولت الأفعى لدغك لكنك نجوت منها ،خيرا اللهم اجعله خيرا !
عند الظهر سأذهب لخالك لنحدد ميعاد فرحك !
تطوف لبنى في شوارع الجيزة تسأل عنه كل امرأة ورجل ،تصف ملامحه ،تدخل المطاعم والمحلات والمساجد حتى دورات المياه لا تفارق دموعها عينيها حتى وصلت إلى تاجر البطاطا الذي كان يشتري منه شاذلي فأعطاها عنوان والده في سوهاج فشكرته ويممت وجهها شطر محطة القطار تريد أن تنتهب الطريق أو تدخل في غيبوبة فلا تفيق إلا تحت قدمي شاذلي !
قطع تذكرة القطار وبينما هي متجهة للركوب تسرع كأنها تخشى من الفوت فتنزلق ساقها تحت القطار لتمزقها عجلاته والناس من هول الموقف في ذهول ،يغطي الناس أشلاءها المتناثرة،تقف امرأة عجوز مرددة :
يا زارع الأرض ،نق تقاويها
واترك الشين يا ولدي ، أحسن تتوه فيها !!