كهل وألوان مبعثرة
إيناس رضا هلال
تريثَتْ قليلا قبل دخولها مملكتَه ، فتحت أبوابَ قلبِها على مصاريعِها ترحيبا بها ، تجولتْ مُقلتاها سريعا حول مملكته من الخارج ، وجدَتْها تشبه القِلاع الصغيرة في الروايات الأوروبية، أخذَتْ نفَسا عميقا محمَّلا ببعض التوتر ، وبين رهبتِها ورغبتِها لبَّت طلبَ زيارةِ ذلكَ الفارس الكهل الذي ظهر أمامها من ثلاثة أزمان مرت ، ولم يخضع لسياط الزمن ، يقف شامخا في استقبالها بابتسامةٍ أشعرَتها بالطمأنينة ، وتقدمت نحوه يدور في ذهنها سؤال : ” هل هو رجل من الواقع أم من الخيال ؟ ، تلك التجاعيد لا شك أنها ستنفخ جُذوة الخيال المطفأة في رُوحي ، قطع حديثَها مع نفسها قائلا :
ــ لقد أطلتُ التفكيرَ في المجئ عدة أشهر ، تلك الأشهر ستؤثر على المدة التي ستقضيها بجواري ، لم يعد هناك وقت .
ــ لا تقلق ، أنا عفريتةٌ في اقتناء الكنوز.
ابتسم قائلا : لا بأسَ أيتها المشاكسةُ الصغيرة ، تفضلي..
فكانت غرفتُه أولَ مكانٍ تطؤه ققدماها، غرفةٌ كبيرةٌ بها كَنزٌ من عصور مختلفة مضت من بُلدانٍ أوروبيةٍ وعربية ، جو هادئٌ وموسيقىٰ إسبانية على الجيتار تداعب إنسيابيةَ المشاعرِ والأفكار ، فاجأها بقوله :
ــ أعجبني تحدِّيكِ لأغلالِكِ التي تسحبينها معكِ في قدميك وقبل قدميك عقلك
” يا الهي ، كيف له أن يرى قيودي التي أخفيها ” فضَّلتِ الصمتَ وعدمَ الرد ، فرؤيته السلاسلَ التي تخفيها واختيارُه التقربَ إليها ، يرفع عنها حرجَ كتمِ أسبابِ اصطحابها لتلك القيود والأغلال ، أما هو فما كان منه إلا أن اقتربَ من عينيها ليخبرَها أن بعد لمعانهما تمردًا مطعمًا بالأصالة :
ـ هل تتفقَّدُ الأصالةَ أمِ التمرد؟
ــ بل الحياةَ برُمَّتها ، أنت مزيجٌ من الطبيعةِ الهادئة و أعاصيرِها الثائرة
حاولت هي الأخرى التمعنَ بمقلتيه ، ولكن لم ترَ شيئا من السحابة الطبابية التي أتقنت صناعتَها الخمسون عامًا الفارق العمري بينهما معلنةً ” لن تخترقي فضائي إلا إذا فتحه هو لكِ”
قررت الاستمتاعَ بما يجود به وما يصوغه من جواهر الحكمة البليغة في كلمات تختزنها الذواكر ، أعطاها المساحةَ للتجول ، هناك .. بين أرفف المكتبة ، ذكرى من سبعين عاما مضت في هيئة صورة ، اصطبحها داخلها ، كان مراهقًا طريَّ العود ، يصطف مع زملائه الأزهريين يرتدون العمة الأزهرية والجلباب ، لاحظتْ هي سلاسلها تطول وتعطيها البراح في التجوال ، شاركته خطواتِه السريعةَ المتجهةَ نحو حلقة الذكر ، وما أن وصل إليها ،شرع في الصلاة ، ولم ينته من صلاته حتى نهرَه جده ، صارخا محذرا له أنه من كثرة صلاته لن يركعها وهو مكلف بها في كبره ، قام من صلاته مكتفيا بهذا القدر راجيا الله أن يغفر له ذنبه في نظراته لسِيقانِ فتاةٍ تغسل أوانيها على شاطئ الترعة ، قام من محرابه إلى حلقة الذكر ،واندمجت هي الأخرى مع الذاكرين ، لمحته بطرف عينيها يجلس وأمامه كتاب ” شمس المعارف ” والنساء يصطفِفْن واحدةً تلو الأخرى ينتظرن دورَهن في أخذ حجابٍ يحفظهن من عين الحسود ، مشت بإيقاعٍ سريعٍ نحوه ، يالها من فرصة جيدة لتعلم هذا العلم الذي يسيطر على عقول فئة كبيرة من الناس ، قيودها ترتخي وسلاسلُ قدميها تعطيها البراحَ للحركة والاقتراب منه ومن كتابه المثير ، تناولت ريشة ، وضعَتْها في المِحبرة ، تتبعت بعينها كتاباتِه المفهومة وغير المفهومة ، شرعت في كتابة أول كلمة ، نزلَتْ صفعةً كالصاعقة على خدها أدارت جسدَها سبعَ لفات متتالية فوق التراب ، وصلت في اللفة السابعة إلى الأسفلت ، ظلت لبضع دقائق منبطحةً على وجهها فاغرة فاها ، غير مستوعبة ما فعله هذا الكهل الصغير :
ــ كيف لهذا الكهل أن يلطِمَ وجهي هكذا ، كادت قيودي تلتف حول جسدي فتمزقه ، قامت مزمجرة ، تنظف ملابسَها من الأتربة ، تنظر يمينا ويسارا ” أين هو ؟” لتفاجأ أنها في الحرم الجامعي ، أيعقل أن يكون ساحرا يضرب بعصاه فيشقَّ طريقا ويردمَ آخر ؟!
فإذا به شاب يافع يقف وسط زملائه وزميلاته اللاتي يرتدين الفساتين القصيرة ، يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق متناسقة الألوان ، تداهم نظراتُ عينيه المليئةُ بالحب العذري خجلَ زميلته وابتساماتِها المتوارية ، قدَّم لها شهادة تقدير من رئيس الجمهورية لحصوله على المركز الأول على دفعته في أربع السنواتِ دراسةً في الجامعة قائلا : ” جئتك بمهرك من رئيس الجمهورية ” ، تشابكت أصابعُهما وانطلقا سويا .
أخذت بسلاسلها تجرها وراءه ، متحيرة من أمره ، أهو الشيخ الملتزم الريفي أم الحبيب الرومانسي الحضري ، ربتت علىٰ كتفه منهيةً اللحظات الرومانسية بينه وبين محبوبته :
ــ ألا يكفي هذا ؟! انظر إلى حالي أنا قليلا ، انظر ماذا فعلت ؟!
ينظر مقهقها إلى سلاسلها التي تحملها وملابسها المتربة ، سألته : متى نعود ؟
ــ لا تخافي ، تتبعي سلاسلك ، ستُرجِعك أي وقت تشائين ، ألا تريدين معرفة طرقة الحمام المحشي بالفريك ؟
وضعت يدها على وجهها مع حركة امتعاضية :
ــ يا إلهي ، يبدو أنني سأحمل سلاسلي وأغلالي وأنطلق من أمامه إلى حيث جئت دون ندم ، هذا الكهل يهتم بالفنون التي أكرهها وأهرب منها ، يبدو أننا غير متفقين ولن أستطيع مصاحبتَه أكثر من ذلك .
وإذا بطفل يحبو ورائحة الحمام المحمر في الزيت تفوح ، والجو الأُسَري المعتاد يملأ المكان ، كان هو الأبَ الجالسَ على مائدة الطعام وحوله أولاده من الذكور والإناث ، أرادت أن ترحل فعاندتها سلاسلها وأصابتها بالشلل ، فما كان منها إلا أن جلستْ بجواره على مائدة الطعام ، انتظرتْ منه تعليقا مشبعا بالشماتة لشلل حركتها ، لكنه نظر إليها بطمأنية وهدوء دون التلفظ بحرف ، وآثر مضغَ الطعام على مهل ، استعادت رعونتها ووجهت له سؤالا : ألن تنتهيَ من هذا الفصل الممل ؟
لكنه استمر في سكينته وتَلَذُّذَه في تذوق الطعام ، يبدو أنه لا يود إنهاء سكينته هذه ، فوضعت رأسها على المنضدة لتغفوَ قليلا ..
الأضواء تداعب عينيها ، تفتحهما تارة ، وتغلقهما تارة أخرى ، أصوات الموسيقى الصاخبة تقلق غفوتها
ــ ياله من كهلٍ متغيرٍ وغريب الأطوار ،هذه الضوضاء لا تناسب حالة سكينته ، وترفع رأسها الثقيلة يملؤها الصداع ، تنظر حولها بدهشة ، تفرك عينيها لتتاكد مما ترى ، فإذا به رجل أربعيني يجلس داخل ملهى ليلي يقع في أفخم شوارع إسبانيا ، يجلس أمامه إحدى العاهرات ، ينصت إليها جيدا ، لم يكن ينظر إلى مفاتنها الأنثوية ، بل كان يراقب لغة جسدها ، حركة أصابعها على جبينها وبين موجات شعرها ، وبعد انصرافها ينكب على أوراقه ويكتب ، بينما ذات السلاسل والقيود انشغلت في تأمل أجساد الراقصات والعاهرات العاريات ، وصفاتهن الأنثوية ، كأنها تتخير الملكة بينهن والوصيفتين
ــ يا لهن من نساء جميلات مثيرات ، نحيفات أيضا ، كيف له أن يعزف عن كل تلك الصفات المثيرة لجنس الرجال وكأنه يبلغ من العمر ألف سنة وينشغلَ بالكتابة ؟! ، لقد تمتعن بجمال الكون كله ، ورشاقته أيضا ، لقد امتلأ خصري قليلا ، بل كثيرا ، سأحتاج إلى جهد كبير كي أصل إلى وزنهن فأكون مثلهن ، وقف خلفها يوشوش أذنيها :
ــ بل تحتاجين إلى أخرى
سحبت نفَسا عميقا يملؤه الغيظ :
ــ وما الذي ينقصني ؟ّ!
أسرع بقوله : من يسقط في عشقهن لابد أن يكون جنديا متأهبا ، فأعداؤه كثر ، يتنازعون على إيماءة منهن ، غفلة واحدة تعيده إلى الصفوف المهملة ، أجسادهن تحمل مئات الحكايات ، وقلمي يترجمها .
سألته بمكر : هل فاتني شيء أثناء غفوتي ؟!
فأمسك بإناء الثلج الممتلئ بالماء البارد وصبه في حركة فجائية فوق رأسها :
ــ فاتك ألا تضعي نفسَك أو غيرَك في مقارنة بلهاء ، ولا تقحميها في ما يخص غيرها ..
صدمة الثلج والماء البارد أفقدتها لثوانٍ استيعابها ما فعله ، وبعدوإعمال العقل ، وقبل أن تنفجر صراخا في وجهه لم تره أمامها ، جلست تُنَهنه كالأطفال ، وتجز على أسنانها غيظا منه ومن أفعاله ، لمحته يتوجه إلى الخارج ، حثتها قيودها على تركه ، وراودها فكرها أن تتبعه لترتشف الأكثر من جولاته الزمنية برغم معاناتها ، حملت سلاسلها وهرولت علها تلحقه ، لم تجده ، تجولت في شوارع إسبانيا إلى أن لمحته ، مع أول ضوء للشروق ، ها هو هناك وسط المبشرين ، ماذا يفعل مع أصحاب الديانات الأخرى ، اقتربت أكثر ، بدا كمفكر عربي إسلامي يتحاور معهم ويرد على أسئلتهم الشائكة ، فقد تم استدعاؤه من قبَلهم قبل الانطلاق في بقاع الأرض لأداء وظيفتهم في التبشير والدعوة إلى الأديان الأخرى، حالة من الخشوع انتابتها مثلهم، جلست على ركبتيها تستمع ، وقف كالمجاهد يحمل كلمته كالسيف ، يصحح مفاهيم خاطئة عن الإسلام وعباداته ورسوله الكريم ، فتساقطت حججهم التي بنوها على معلومات خاطئة كأوراق الخريف ، وضعف استعدادهم لأداء وظيفتهم .
ــ هذا الكهل كم شخصية يمتلكها ؟ّ كلما صاحبتَه ازدادت حيرتي فيه ، ألف سؤال دار في ذهنها
انصرف الجميع ولم يبق سواها ، رأى كلَّ تساؤلات عينيها ، أخذ بكتفيها ينهضها ، تراءى لها ما وراء السحابة الضبابية داخل عينيه ، هاهي بعض المشاهد تتضح ، ابتسم بطمأنينة كابتسامته الأولى :
ــ لا تحتاري ، الكون يحث دوما على الانتقال والحركة ، ويؤسس بالتغيير لكل ماهو جدير بالاستمرارية ، فالتغيير ينطق به أكبر الكائنات وأصغرها ، بعضنا يملك أن يكون مخلدا لا محالة ، ولكن المخلد لا تربطه سلاسل ..ولا تتحكم فيه قيود
تركها وابتعد ، يود الانسحاب ، وتود أن تلحقه ، تمنعها سلاسلها ، ثقل أصبح غير مرغوب فيه ، تراه يبتعد أكثر ،
ــ انتظر انتظر
تُسرِع الخطى تمنعها قيودها ، تنحني لأول مرة للتخلص منها ، المحاولة أدمت يديها وقدميها لكنها نجحت في الخلاص ، ركضت وركضت نحوه ، حال جدار سميك شفاف بينهما ، تضرب بكفيها علية بقوة ، صارخة :
ــ أيها الكهل لا ترحل .. لا تتركني الآن .. انتظر قليلا
يختفي بين ضباب كالذي كان في عينيه ، حجبه عنها ، نظرت إلى السلاسل من بعيد ، أعرضت سلاسلها وقيودها عنها ” لم يعد حجم قدميك يناسبنا ” استلقت على ظهرها خائرة القوى ، وشعاع نور يداعب وجهها ، وثمة ألوان مبعثرة ..