كتاب تحت العدسة:  بقلم القيثارة شريفة السيد

في ندوة أدارتها باقتدار الفنانة سهير المرشدي
بجمعية أنصار التمثيل والسينما
شريفة السيد: رواية دماء أبوللو لـ أ.د.زين عبد الهادي
سيناريو جاهز للسينما على طبق من فضة. لكن ما تصنيفها؟
د. هيثم الحاج : سأرد على شريفة السيد: إنها روية تتأبى على التصنيف.
أ.د.زين عبد الهادي : روايتي كدكان العطارة.!
ونحن أبناء زمن عبد الناصر المشوهون..!
أنا أرصد تحولات المدينة من الحياة للموت، لتحولات الناس..!
في هذه الرواية يقدم الكاتب عالمًا جديدًا تمامًا؛ يعيد الأسطورة الإغريقية للحياة، يكسو أوديسة هوميروس ثوبًا عصريًا جديدًا، يعيد أبوللو محلقا في سماء عالم الستينيات، _طفل أخرس وإله إغريقي جديد_ حيث تهاوت الأحلام وانهارت الحياة، وحل ظلامٌ مطبقٌ وسكونٌ عابثٌ على كل الأشياء، ليجوس البطلان في المدينة الخربة.
بعض الشخصيات :
إنه يعيد بناءَ الحياة بعد الهزيمة مباشرة، في شكل طفل تُرك وحيدًا يواجه أقداره متجاذب الأطراف بين أبوللو هذا الإله جالب الفرح والشمس، والراهبة اليونانية كريستينا، التي كانت كهفَه حين يضيق العالم، وعمه خضير الذي يتسكع معه في المدينة بعد نهايتها، يغرق في الخمر مع صديقه وعشيقته وابنته من عشيقته السابقة، وخيالات أسرته التي لا تفارقه وبين أصدقائه الصغار؟ ويلقي بأكثر أسئلتنا وجودية للعالم على لسان الطفل.
وربما يكشف الحوار التالي عن طبيعة هذه الأسئلة:
ـــ منقوع الصُرم حرام مش كده يا ستي ؟
ـــ أيوه يا حبيبي .. إوعى تقرَّب منه لتروح جُهنم..!
ـــ هُوَّ أنا ما قربتش منه. أنا بس شُفت عمي خُضير.. ويانِّي بيشربوا مع بعض وكانوا مبسوطين قوي
ـــ ما هو علشان كده حرام
ـــ حرام علشان مبسوطين..؟ ولاَّ حرام علشان بيشربوا منه؟
ـــ حرام علشان أي حاجة.. اتلهي على عينك واسكت
ـــ طب ليه احنا زعلانين بقى.؟ زعلانين علشان هم مبسوطين.؟ يعني هم لو ماشربوش ها يبقوا زعلانين.؟ ولما يشربوه ينبسطوا ويغنوا ويضحكوا.؟ علشان كده ها يخشوا النار..؟
هنا لا تنحني الخيالات ولا تتسرب إلى شقوق لا يعلمها الراوي، بل هي مخزونة في عقول أبطالها الحقيقيين، لكن ذاكرة المدينة هي الأقوى، كيف تموت المدن وتحتفل بانتهائها، فلا تعود المدينة مدينة، هي فقط في عقل من عاشوها ، أما هي فتغيرت تمامًا، تشوهت ملامحُها، انهار بحرُها وخلت الشوارع من الباعة والمارة والمتسكعين، حتى السماء أصبحت سماء متجمدة بلا طيور أو سحابات تعابثها.
يقدم الكاتب كل ذلك بلهجة غير يقينية متشككة، فلا ندرك يقينًا مَنْ الراوي.؟ هل هو الطفل الذي كبُرَ، أم الكبير الذي ارتدَّ طفلاً..؟
الشكل العام للرواية:
يقدم الكاتب روايته في ثلاثة أجزاء متتابعة يسميها مقاطع؛
المقطع الأول بعنوان (عصر الجنيات)
ويتناول أسرار الطفولة من خلال علاقة جدلية بين الطفل وجدته وجده/ وبداية علاقته بعالم الجان والآلهة الإغريقية، خاصة مع زيوس كبير آلهة الأوليمب، وأبوللو إله الشمس والجمال والمرح، ويُعِدّ الأخير حاميًا له من أصدقائه الشياطين الصغار، أو من الأحداث المميتة التي يمر بها، إنه مقطع الاكتشاف والأسئلة الوجودية الأولى، مقطع المرح والجنيات الصغيرات اللاتي لا يتركنه لحظة.
المقطع الثاني بعنوان (خيار هرقل)
فللمرة الأولى يواجه خيار حياته، عليه أن يختار أيًا من السبيلين كما فعل هرقل ذات يوم؛ حين عرض عليه أن يختار بينهما، وكما تعرض عبد الناصر والجميع بعد الثورة، وها هو عمه خُضير الذي فقد ساقه في حرب سابقة يصرح له:
ـــ إيه هو الحقيقي في رأيك..؟ إحنا واحنا ماشيين بالليل.؟ ولا تفتكر الطيارات الإسرائيلية اللي كانت بتقع وبنهلل لها في الشوارع.؟ ولا خطب عبد الناصر.؟ ولا جيشنا اللي اتمرع في سينا.؟ ولا أبوك المرمي في السجن.؟ ولا ستك واخواتك.؟ ولا حامد الفاروقي اللي سافر ومراته حامل في شهرين.؟ ها يشوف بنته ولا لأ..؟ راح فين..؟ ولا هُدى بنتي أنا.؟ طبعًا ما نتاش فاهم حاجة م اللي بأقوله.! ولا عمرك ها تفهم.. ولا حد ها يفهم.. تعرف يا وله (وسكت لحظة) حتى أبوللو بتاعك مش هايفهم.. طاعون فيك وطاعون فيه..!!
ويكمل الاعتراف حين كان المجتمع المصري مجتمعًا يقبل الآخر بلا شروط مسبقة، لا دخل فيها للملة والجنس، فيقول:
ـــ حمار، أنا كنت حمار. سَتَر عليها القبطي الجريجي الملعون.. الأجنبي أشرف مني الجريجي يانِّي طِلع جدع قوي، وأنا طلعت خيخة.. إخييييه.. إخيه عليك ياله يا خضير إخيه.. كنت فاكر نفسك سبْع البُرومبه.. طلعت فالصو ما تساويش صلدي..! المقطع الثالث وعنوانه: (دماء أبوللو)
وهو أكثر المقاطع شجنًا في الرواية، حيث يموت أبوللو، ويتعرض عبد الناصر للهزيمة، ويتعرض الطفل نفسه للهزيمة، ويتعرض جميع أصدقائه للنكبات.
لمـاذا هذه الرواية ..؟ ولمـاذا أبوللو ؟
إنهـا تحاول التعرف على السبب في تشويه المجتمع المصري في نهاية الستينيات، لقد قيل الكثير عن تلك الفترة؛ لكن زين عبد الهادي يُصر على أن هناك الكثير الذي لم يُعلن بعد، ودون أصواتٍ عالية أو نبراتٍ زاعقة.. يحاول في روايته التي تقترب من الحُلم وتستند إلى الأسطورة إلقاء الضوء على وضعية المجتمع الساحلي قبل النكسة مباشرة، إنه مجتمع تسحقه رغباته التي يكتشف زيفها من خلال تعريضها لضوء الشمس، ضوء الآلهة القديمة.
(يضربه الضابط فتسيل دماؤه؛ وتسيل دماء أبوللو) رمز الخير والفضيلة للطفل السارد في زمن الشر والنفاق والأشياء المبهمة غير المفهومة الأسباب،
وقد اختار البطل لنفسه (أبوللو) ليتوحد معه اسما ورمزا، باعتباره إله الشمس ورمز الخير في الأسطورة الإغريقية القديمة.
تكنيك الرواية :
لا يمكن الإلمام بكل العناصر التي صاغ بها الكاتب روايته لكثرتها؛ لكن يمكن الوقوف أمام بعض المعطيات:
فمن ناحية المضمون :
هناك طفل بورسعيدي مولود وسط مياه بحيرة المنزلة، عندما سقطت أمه من مركبٍ هربًا من العدو إبان حرب 1956، فيعتقد أنه خُلق من ماء، وأن نار الآخرة لن تحرقه أبدا.
هذا الطفل/المشكلة لا تهدأ له عين، فيتأمل كل شيء، ولا تهدأ له نفس، فيتساءل عن كل شيء بإلحاح، طفل مندهش دائما، لا يستسلم لإجابات ساذجة تزيده اندهاشا فتتوالد أسئلته وتتشعب؛ عن أشياء لا ترد على ذهن أحد. هو لا يقتنع بسهولة؛ يجرب بنفسه وينقع حذاءه ليتأكد من كونه (منقوع الصُرَم) الذي حكت له الجدة عنه فيجده مُقرفا. طفل حائر بين ما يسمعه من المصريين ومن الأجانب ببورسعيد، يرَى العالم من حوله بصفات أخرى غريبة، يراه يتغير إلى الأسوأ، إلى الانهيار والتشوه. وأسئلته لا تجد إجابة شافية لأنهم في (عصر الجِنِّيات)، كتفسير لامنطقي لامعقول، عصر يتكئ على القدرية، فيجد نفسه في حياة مُعرَّضة دائما للفشل والانهيار، بينما هو يرجو الفضيلة والخير، وكأننا ليس بأيدينا إلا مجرد الحلم فقط.
حكايات كثيرة يحكيها الطفل عمن عاصرهم: حكايته مع سيد الفحام وأخته لبنى التي تقنعه (فيشنق نفسه كلعبة يلعبها الأطفال) بعد أن فقد عقله لكثرة ما ضربوه بالحجارة، وحكايته مع كريستينا الراهبة، التي تموت برصاصة مجهولة، وحكاية يانِّي بائع الخمور وعم خُضير، وقصة خالته أم هاشم مع البحار اليوناني، أحداث ومتناقضات لا يجد لها تفسيرا مقنعا.
ما الذي أسس كل هذه الدهشة فيه؟
موت أسرته وهو صغير؟ أم إصابته بالخرَس؟ أم وجود اليونانيين بتصرفاتهم الغريبة؟ أم صورة البطل الحُلم في شخص جمال عبد الناصر، الزعيم/الأمل في تحقيق أحلامنا؟ أم الوجود الإسرائيلي في الجسم العربي؟ وماذا تعني كريستينا الراهبة، التي تستعد لترك الرهبنة فتموت برصاصة مجهولة؟ هل معنى هذا أن عدونا غير معروف للآن؟ ولماذا هزيمة 1956 وهزيمة 1967؟ سؤال هام تدور حوله الرواية، في شكل أسئلة حول هزائم أخرى في المعتقدات والقيم والشعارات، هزائم الأحلام والطموحات.
ومن ناحية البناء:
فهو نص باذخ، كتابة واعية، ناضجة في بناء هرمي تصاعدي مزدحم بالشخصيات والحوارات فتشعر أنك في متاهة ضخمة، جمع بين الأضداد؛ كالجانب العلمي والجانب الغيبي في تفسير الأشياء.. ويرهقك الفلاش باك كثيرا.. لكنه يوقفك على ضالتك أكثر وأكثر.
معمارية الرواية:
تعتمد الرواية في بنيتها على المتاهة السردية شكلاً وموضوعا. فالحدث يُقدم من وُجهتَيِّ نظرٍ في آن، والذي يُقدِم وجهتَيَّ النظر شخص واحد هو الراوي في طفولته وكبره، كما تتفكك الصورة إلى عشرات الصور لتتداخل، ثم تنقشع سحابات شبكتها لتعيد تكوينها من جديد. وفي بانوراما اجتماعية شائكة، وعلى طريقة الفلاش باك، مع توازٍ دقيق بين الخط العلمي المبرر للظواهر، والخط الغيبي المبهم، تأتي (دماء أبوللو) لنرى (الحياة بعيون طفل)، أو هكذا لا بد أن يكون العنوان الجانبي المتخيل للرواية.
ومن ناحية الأسلوب:
فهو يجمع بين أساليب السرد المختلفة الإيجاز والتكثيف والشرح والتفصيل، فمثلا هو يمرر الجملة بثلاثة أو أربعة مراحل تصاعدية في الخطاب الخبري، ص 12 يتحدث عن ترحيل الأب من مدينة بورسعيد وقت الأزمة، ثم ينتقل إلى ترحيل حامد ثم ترحيل الجميع ثم الحديث عن كل شيء وأنه لم يكن يسير بإرادة أحد, تصاعُد سردي من الخاص إلى العام، ثم إلى الجمع الأشمل ليمرر الخبر جزءًا جزءا حتى النهاية، مثال آخر لن نذكره هنا 25.
إنها (رواية التفاصيل):
لكثرة الحكي عن أشياء كثيرة باستفاضة، فتشعر كأنك قرأت تاريخ مصر كله في صفحة واحدة ص23، بل يمكن أن أسميها (رواية تأريخية توثيقية تتماس مع السياسة والمجتمع)، لأنها تذكر وتسجل أسماء شوارع وميادين وأحياء، وأسماء أشخاص، وأسماء أفلام وأسماء مطربين وفنانين، وأسماء أنواع من القماش والجلود وموديلات ملابس وأحذية وحيوانات بَحرية وعطور.. و.. الخ، ولم يتبق سوى أسماء القطط والكلاب التي عاشت تلك الفترة.
إلا أن أسلوب التفصيل هذا أوقعه أحيانا في مسألة لزوم ما لا يلزم، فيقول مثلا ص12: (كان قابعًا في قلب العربة من الداخل) ولو حذف شبه الجملة (من الداخل) لكانت الجملة صحيحة ومفهومة.
(سيناريو جاهز للسينما)
ومن المناطق الرائعة في الرواية حوارات الطفل مع الجدة مثلا ص35:
– انت عارف يا وله المطرة دي نازلة ازاي.؟ سيدنا ميكائيل ماسك دلوقتي مصفة وبيدلق فيها ميه من السما.
– علشان كده المطرة نازلة.؟
طبعا يا وله يا عبيط،!
ولما حاول أن يُفهمها أن سيدنا ميكائيل ليس له علاقة بالمطر انزعجت واتهمته بالكُفر، وكشفت رأسها وقامت تصب لعناتها على كل المدرسين، حوار آخر ص38، 39:
– الله يلعنك يا وله، ماسيبتش حاجة من جدك، انت يا وله مكنة، اسكت شوية.!!
– طيب ايه الفرق بين الجنِّي الطيب والجنِّي الوحش يا ستي.؟ ايه الفرق؟
– طيب ليه عين جدي زرقا.؟
ودائما تنتهي هذه الحوارات والأسئلة بلا إجابات، فمثلا ص56 يسألها:
– هي الشمس ممكن تصدِّي يا ستي.؟
– لأ يا حبيبي الشمس مش ممكن تصدي.
– ليه مش ممكن تصدي؟
– لأنها كده.
– يعني ايه، أنا فهمت من اللي قريته إنها ممكن تصدِّي، ولو صدِّت النور بتاعها مش هاييجي عندنا.
– يا سعاد الحقيني، الواد أكيد مَسُه عفريت هاتي البخور خلليني ارقيه.
حتى حواراته مع جده أيضا لم يصدقها عندما قال له: (الحياة والموت بيتفقوا في حاجة واحدة، لازم يظهر دم علشان نتأكد من أنهم حصلوا) حوارات من أمتع ما جاء في الرواية، تحمل روح وعفوية وطلاقة الطفولة، لذلك هي (سيناريو جاهز للسينما) وليس سوى لمسات المخرج.
ومن ناحية المعجم اللغوي:
فالرواية تضم جميع المتناقضات؛ فهناك الجُمل الفصحى القوية العالية، في مقابل الجُمل المُغرقة في الشعبية، إضافة إلى اللهجة البورسعيدية دون لهجة سكان السواحل، بل البورسعيدية القُح، ويُعرف ببعض مفرداتها المُبهمة، كما يستعمل أحيانًا اللغة اليونانية في المقاطع التي يظهر بها يانِّي أحد أبطال العمل اليوناني، الذي يسكن منطقة شعبية من مناطق بورسعيد، وكذلك كريستينا الراهبة اليونانية أيضًا التي تمثل الآخر في بورسعيد،
وهو معجم متوازن بين الفصحى والعامية التي أضفت على الأحداث الصدق والحميمية، وخلقت تواصلا مباشرًا بين المبدع والمتلقي، فشعرنا بروائي يتحدث بلسان الطفولة فينا و الرجولة والأنوثة والجد والجدة … إلخ.
لكنه عندما أراد أن يكتب كلمة (بؤجة) كتبها بالقاف (بُقجة) ص11 فأصبحت صعبة النطق، حتى ولو كان يقصد أنها كلمة عامية، وقد بحثت عنها فوجدتها فصيحة في (بأج) وبالألف المهموزة، والبأج = الشيء المتحد وجمعها (بأجات)، وأظن أن المقصود هنا في السياق العام للجملة هو (بؤجة) وثانيها الواو المهموزة في الإفراد والجمع على (بؤج) فهذا خطأ كتابة إملائية لا أكثر ويبدو غير مقصود، لأنه في ص12 كتب في حوار بالعامية (يتتعتع) على أنها عامية، وهي فصحى صحيحة وتجدها في القاموس المحيط الورقي (ص 85 جـ 1).
ومن ناحية التراكيب اللغوية:
فرغم قوتها ورغم استخدام المفردات الموحية الواسعة الدلالة؛ إلا أنني أتساءل عن كلمة (يلقم) في جملة (كان الطبيب يشخص حالتي ويلقِم الجرح في حاجبي) ص210 إن لم يكن خطأ مطبعيا فطبقا لسياق الجملة فهو يقصد (يضمد الجرح) وليس (يلقِم الجرح) أو أنه يقصد (يلئم) من الالتئام مثلا ؟.
وفي عموم النص فالتراكيب جاءت واضحة ومباشرة كطلقات رصاص، ولم أعثر على تراكيب ناعمة إلا قليلا، لأن ظروف الحرب والجو العام للأحداث فرض ذلك. وإن كانت لغة الشعر تظهر فجأة أحيـانا.
ولكن أثار انتباهي وجود بعض الجمل المقلوبة، كما في ص10:
(صوت موسيقى شرقية راقصة مكتوم) والمعتاد (صوتٌ مكتومٌ لموسيقى شرقية راقصة) بدليل أنه استخدم التركيب الصحيح قي الصفحة المقابلة حين قال: (أصوات بعيدة مكتومة تأتي من كل مكان) وفي جملة: (وجدت كل شيء فارغا، فارغا تماما، حتى النخاع فارغا) والصحيح في نهايتها (فارغا حتى النخاع) أما لو كان يقصد (حتى) الاستدراكية، كبداية لجملة جديدة فإن (حتى) لا تنصب كلمة فارغ وصحيح الجملة:( حتى النخاع كان فارغا).
مثال آخر ص14 يقول: (ذابل كل شيء) والمعتاد: (كل شيء ذابل).
ولا عتاب على الأخطاء المطبعية وهمزة الوصل أو القطع؛ لأنها مرض العصر. لكن هناك خطآن في النحو _أسجلـهما كإضاءة للكُتاب الشباب_ مع اعتبارهما نسبة 0% على مدار العمل كله؛
وهما: في ص14 (فيراها كل الناس فعل فاضح) والصحيح (فعلا فاضحا،) وفي ص45 (أغلقُ عيناي) والصحيح (أغلقُ عينيَّ).
ويبقى في ذهني سؤال: هل هذه رواية سياسية أم رواية اجتماعية تتماس مع السياسة بشكل ما؟ وسؤال آخر: هل الحل الوحيد لمشكلاتنا هو أن نفقد ذاكرتنا، أم يجب أن نصاب بالخرس؟
جـاء ذلك في مناقشة رواية دماء أبوللو لـ أ.د. زين عبد الهادي
وجاء في ورقة د/ هيثم الحاج علي: أن هذه الرواية ليست سيرة ذاتية، إلا إذا صرح الكاتب بذلك، والمهم أن طبيعة هذا الطرح هي الأزمة التي مر بها الشعب المصري كله وبخاصة شعب بورسعيد وقت الحرب..
وأضاف د/ هيثم: سأرد على شريفة السيد وأقول أظنها رواية تتأبَّىَ على التصنيف، لأنها تجمع بين السياسـة والاجتماع والتاريخ والتوثيق فعلا،
مكان الرواية بورسعيد له خصوصية شديدة، فهو المَعبَر بين الثقافات الغربية والعربية المتمثلة، مكان معزول جغرافيا عن مصر، ومُنشأ بقرار بعد قرار إنشاء قناة السويس، وهو جامع للثقافات الأجنبية وعلى رأسها الثقافة الكونية، تلك الثقافة التي تعالت فوق الأعراق.
ويحاول الكاتب أن يستبطن معنَى الحداثة، وأن يهدم التقاليد القديمة في الكتابة الأدبية، لكي يبني من يأتي بعده تقاليد جديدة، في هذا الجيل الذي أتى ليواجه الأزمات الموغلة منذ القدم في المجتمع،
ولذا أظن أن كل الأزمات التي يعانيها المجتمع المصري اتضحت في هذه الرواية، حيث إنها دارت حول أحداث أسبوع واحد فقط بعد 5 يونيو 1956 ، وهو المجال الزمني للرواية والذي يدور بشكل حلزوني، وكذلك عندما يستبطن رؤية طفل متوحد مع الأسطورة ليفسر كثيرًا من الثقافات الغربية، طفل أخرس لم يتحدث إلا في سن متأخرة جدًا، وعندما بدأ يتحدث ويعبر استخدم لغة بسيطة، والتي من الممكن أن تعبِّر نوعًا ما عن أفكار قد تكون ساذجة عند البعض، ولكنها موغلة في العمق، وتحاول أن تصنع عالمًا متوازيًا ما بين الأسطورة في ذلك العالم الغيبي والواقع.. ففي الأسطورة التي هي منفذ لإحباطات هذا الطفل، نجد أنه يرى محض تشابه بين شخصيتي عبد الناصر وأبوللو، رغم أن الأخير إغريقي بالمعنى الأوروبي والأول صعيدي من مصر، وهما يمثلان له منفذا للهروب من إحباطاته فيصنعُ مثلثا معقدا يُنبئ عن رؤية شفيفة، هو طفل يحاول أن يصنع عالما كبيرا.
ولكننا نتساءل هنا لماذا أبوللو على وجه التحديد؟ لأنه من ناحيةٍ مبدئية (إله الإبداع) عند اليونان، وهو الذي وجه سهام الطُعون تجاه جيوش الأعداء.
لذا أقول إننا لسنا أمام سيرة ذاتية للكاتب، وإنما نحن أمام عمل روائي يستخدم أو يستغل إمكانات الواقع ليطرحها على ذلك التاريخ الممتد فينبئ عن أزمات متعلقة بأطفالنا، بعلاقتنا بالحضارات الأخرى، باعتبار بورسعيد نقطة التماس بين عالمين، وهي مكان يقبل التأويل.
في حين كانت ثقافة التشويه ذات حضور طاغ في الرواية، لأننا نتحدث عن أسبوع الحرب، بكل ما تتركه من تشوهات في النفوس وبخاصة في الأطفال. الرواية تلعب على (الزمن المرن اللولبي).. وتأخذ من تقنيات الروايات البوليسية فكرة الإظهار والإخفاء. بالإضافة إلى الزخم في وجود شخصيات من كل البقاع مما يفسر إن مصر أم الدنيا، رغم الخلفية (الكُرزمو بولرتانية) التي تفتح الباب للنظر إلى طبيعة خاصة بمكان محجوز عن الوطن ومفتوح على العالم.
(كرستين) هنا تمثل الثقافة اليونانية.. وهي معادل بشري لأبوللو، وحين تموت هي يموت أبوللو.. وكما وُجد التوازي بين المعلومات العلمية والغيبيات والأسطورية والعفاريت والجان في الرواية، فالرواية تحاول أن تصنع عالما ماضويا موازيا مع العالم الذي نحياه، باستخدام الحس الطفولي البكر، حتى على مستوى اللغة مما يفسر أي سقطات لغوية ذكرتها شريفة السيد..
وتم فتح باب المناقشة مع د زين عبد الهادي
– بدايةً سألته الفنانة سهير مرشدي : وقت الكتابة هل كنت تستحضر أشياء وأحداثا بعينها..؟ فأجاب د/ زين عبد الهادي:
(الروائيون أشخاصٌ انعزاليون بطبعهم، ملولون من الأحاديث الملوثة والمكررة).
– هي فترة أتمنى ألا تتكرر في تاريخ مصر، هل تتخيلوا طعم الحياة في فم المصريين آنذاك؟ كنت أتذكرها وأتذكر كيف اضطررت للخروج من الحياة، كيف تسولنا الحياة من الآخرين، نحن من كنا نمنح الحياة للآخرين، لا أستطيع أحيانا الخروج من تلك اللحظة، إنها قدري الذي أحاول دائما أن أتكيف معه..
وتناوبت عليه تساؤلات الحضور:
– لكنك لم تتناول أحداث 1967 بشكل مباشر في الرواية؟ فأجاب د. زين:
– لا أستطيع.. وهناك من قدم ذلك في الرواية المصرية من قبل، كما فعلت أمينة زيدان في “نبيذ أحمر” مثلا.. أنا أرصد تحولات المدينة من الحياة للموت، لتحولات الناس، لعلاقتنا بالآخر التي تشوهت الآن بادعاءات كاذبة متعلقة بالدين والمِلة، وحاولت التركيز بشكل أكبر على تحولات الطفولة، الأطفال المصريون وأنا منهم شوهتهم الحرب تماما،. نحن أبناء زمن عبد الناصر المشوهون، كنا من أتباع الثورة، مؤمنين بها، وللأسف لم يؤمن بنا من حمل رايتها بعد ذلك، وهو الوحيد الذي امتلك الإيمان بها، كثير من رجال الثورة والمنتفعين كان همهم السلطة والمال، كأمر طبيعي بعد كل ثورة، لكن ليس طبيعيا أن يستمر ذلك طول الوقت، كان لا بد من تحولات عظمى تدفع المصريين للأمام، لكن للأسف وجدنا أنفسنا جميعا في الخلف، سُكانا للعشش وحواف المدينة، مشاهدين من صفوف الترسو ( سينما درجة تالتة)، كأننا لم نوجد من قبل.. أمر سيء للغاية.. الهزيمة يمكن أن تخرج منها بنصر ما، لكن لا يمكن أن تخرج منها كما كنت، سقطت أحلامنا جميعا، كان لابد من تغيير أحلام الشعب المصري كله، الشعب المصري تزداد كوابيسه منذ زمن طويل وللآن، مع أننا نستحق الأفضل بكثير، لأننا مصريون، ولنا تاريخ طويل مشترك مع الشعوب العربية الشرقية من جانب والشعوب المتوسطية كاليونان مثلا من جانب آخر، إنهم يشبهوننا في كثير من النواحي، اقرأوا هيرودوت بحديثه الممتع عن المصريين، كان ذلك واحدًا من هواجسي في “دماء أبوللو”.
س: لماذا كان أبوللو جزءا من عنوان الرواية؟ وما مبرر وجود اليونانيين بشدة في الرواية..؟ فأجاب د. زين:
المسألة أنني أردت كتابة التاريخ الشعبي للمصريين في علاقتهم بالآخر، عكس ما فعله هيرودوت تماما.. حين كتب عن علاقة اليونانيين بشعوب الأرض كلها.. لقد كان لأبوللو معابد على الأراضي المصرية، وكانت له عرَّافات في زمن الثورة، واليونانيون ما زالوا كجزء من النسيج المصري، بتجارتهم، ومشاركتهم في الكثير من الأعمال العظيمة، كقناة السويس، إن واضع مخطط السد العالي مهندس يوناني اسمه “أدريان دانينوس” مصم رسومات السد لعبد الناصر.. هل تذكرناه يوما ما في احتفالاتنا؟ لأ…، إذن هي دماء أبوللو، مع أننا شعب غير مُجحف، وغير ناكر للجميل، لقد أردت أن أقدم شيئا ما لهذا الرجل، رغم أني لا أعرفه ولا أعرف أحدا يونانيا، عرفتهم وأنا طفل فتحدثت عنهم من هذا المنظور، إنهم جزء منا، مهما اختلفت الجنسية! لذا أهمس للمسئولين باستدعاء أسرة هذا الرجل وتكريمه على الأرض المصرية.. هل هذا بكثير!!
– وسألته سحر الجمل صحفية في المسائية: ما معنى الرواية بالنسبة لك.. وتفسيرك لبعض فقرات أقرب للشعر؟ فأجاب د. زين:
– الشائع أن كل أديب يبدأ شاعرا.. إحساسك الداخلي بموسيقى العالم يدفعك لقول الشعر. كتبتُ شعرا، وما زال الشعر (يهف) عليَّ، ولكن لا أستطيع التمادي فيه، الشعر يحتاج لقتال مستمر مع الكلمات، مع اللغة والموسيقى وهي عملية مرهقة للغاية، والرواية ربما تكون أكثر إرهاقا، لكنها أسهل في التناول والبناء.. هل تعلمين أنني أتساءل أحيانا عن سبب كتابتي للرواية؟ لكني أظن أننا نكتبها دون وعي، أو بوعي منقوص، فالرواية مثل دكان العطارة… أجد فيها كل ما أريد من مواد ويمكنني أن أصنع كيمياء من تلك المواد، أعني هذه اللغة، أو بشكلها النهائي، الرواية أشبه بلعبة ليس لها شروط محددة، أغلب الروائيين أو الأدباء يجد نفسه في السرد، وإلا ما معنى تحول كثير من الشعراء لكتابة الرواية؟
– أليس السبب هو غواية السرد..؟ فأجاب د. زين: نعم.. كما أن الشعر كان أفضل ما قدمه العرب للعالم، لكن ما هي القيمة التي يتركها الشعر الآن في بيئة منحطة لا تعي.؟
وسأله الأديب فاروق عبد الله: الرواية تقع في نفس المأزق. والقصة القصيرة أيضا. ! فأجاب د. زين: أنا معك.. لكن الرواية تميل للتفاصيل، ونُجيدها بالممارسة، لا تحتاج الرواية لموهبة الشعر، بل تحتاج لموهبة الحكي، جميعنا سمع حكايات جدته ومئات القصص، في الشارع في التاكسي، في الباص، في أي تجمع، في السينما، هذه بيئات سهلة لتكوين روائي جيد، الشعر يحتاج موهبة فطرية، أما الرواية فلا تحتاج نفس الموهبة ولا شروطها القاسية!
وسألته الفنانة سهير المرشدي: أفهم من ذلك أن الشعراء أفضل من الروائيين؟ فأجاب د. زين:
– ربما من ناحية الموهبة، إذ يمكن لكل الشعراء كتابة الرواية، وليس العكس! لكن الرواية أكثر تأثيرا بحكم نموها، عكس الشعر، الروائيون أشخاصٌ انعزاليون بطبعهم، ملولون من الأحاديث الملوثة والمكررة، يريدون القبض على كل التفاصيل الصغيرة للحياة وتدوينها، أما الشاعر فليس معنيا بالتفاصيل، الروائي يريد أن يثرثر دون حضور جماهيري، ويريد لثرثرته المسجلة أن تصل العالم كله!
وسألته شريفة السيد: أنا نفسي أسميت دماء أبوللو(رواية التفاصيل) ورواية تأريخية توثيقية هل كان عندي حق؟ فأجاب د. زين:
– نعم فـ “دماء أبوللو” قامت على مجموعة من التقنيات المعبأة بالتفاصيل الصغيرة، طفل يستدعي كل قصص الأطفال، ويحيا معها إلى أن يعثر على صورة على هيئة تمثال لأبوللو، ثم يعرف عنه بعض التفاصيل فيقع في غرامه، ويمارس أغرب حيل الأطفال؛ فيرسل إليه بخطابات مرة في زجاجات يلقيها في البحر علَّها تصله في أثينا، ثم في طائرة ورقية يتركها للريح، وأخيرا رسالة مع خالته وهي ذاهبة لليونان. يتخيل أن قدراته خارقة، ولن يموت غرقا أو حرقا، يؤمن بأن أبوللو يحرسه، لكنه لا ينسى الحرب، وما فعلته به وبأسرته وبالمدينة كلها، فيحكي عن أصدقائه وأفاعيلهم العجيبة، ولا ينسى عبد الناصر، لا يفقد الإيمان به لأنه رأى أباه يفعل ذلك، على الرغم من أن أبيه دخل السجن جراء إيمانه بما قاله عبد الناصر، ثم يجد نفسه وحيدا في المدينة بعد حادث خرسه، يبحث عن خاله خضير الذي فقد قدمه في حرب 56، رجل ثوري وعربيد، القدر يطل في كل أركان الرواية، ليمارس لعباته في أشخاص الرواية حتى في أبوللو نفسه، وتصبح المدينة جثة هامدة، هذا ما تفعله الحرب والأقدار، فلا ضمان لسعادة مستقرة، ولا ضامن للحياة، فالموت مصير كل شيء.
وسأله الفنان أحمد عبد الوارث: كيف وظفت تقنيات الرواية لبناء هذا العمل وخاصة الزمن؟ فأجاب د. زين:
– زمن الرواية في جزئها الأول قصير للغاية، لا يتعدى أسبوعًا، لذا تحايلت عليه باستخدام الفلاش باك، فالرواية تسير في مسارات واتجاهات متعددة، تعود للخلف وتتقدم للأمام وتتجمد أحيانا، في نفس الوقت (هي متاهة غير محسوسة للقارئ)، متاهة الراوي نفسه في تحولاته من طفل إلى راوٍ ناضج يمكنه أن ينطق بالحكمة دون مباشرة. كذلك (البناء الهرمي التصاعدي) بمعنى ؛ كيف تتوازى الحوادث وتؤدي إلى نفس المصير على الرغم من اختلافها، شبكة علاقات إنسان بالعالم ليصل لنفس النهاية، القدرية، الإنسان والمدينة والإله الإغريقي، فهل كنا نحتاج إلى عرَّافات لتنبئنا بما كان سيحدث عام 1967، هل كنا نستطيع قراءة الغيب، فيما كنا نظن أننا الأقوى؟؟
– كان ذلك بالتعاون مع منتدى المبدعات العربيات بالقاهرة برئاسة الشاعرة شريفة السيد
في ندوة بجمعية أنصار التمثيل والسينما أدارتها الفنانة سهير المرشدي.. بحضوور د/هيثم الحاج علي أستاذ الأدب العربي بجامعة حلوان ومداخلات بعض الفنانين كالفنان أحمد عبد الوارث ونخبة من الأدباء منهم محمد السيد عيد ويعقوب الشاروني ومحمد يونس وحسن عبد الرحيم وتهاني الأباصيري ونعمات إبراهيم ومحمد المسعودي وغيرهم.
صدرت الرواية عن دار نشر ميريت، في 269 صفحة

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: