قراءة في رواية ” سلامٌ على إبراهيم “

قراءة : أشرف خيري يوسف
المؤلف : الأستاذ الدكتور/ محمد عفيفي.
دار النشر : دار الشروق، 2023م.
حجم الكتاب : من القطع الصغير، 124 ص .
تعرفنا على الأستاذ الدكتور/ محمد عفيفي، في الأوساط الثقافية والأكاديمية كأستاذ مرموق في تخصص التاريخ الحديث والمعاصر، فهو رئيس سابق لقسم التاريخ بآداب القاهرة، وأمين عام سابق أيضًا للمجلس الأعلى للثقافة، وبالطبع أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة التي قدمها تلامذته النجباء في تخصص التاريخ الحديث والمعاصر، وشارك في تحكيم العديد من أبحاث الترقيات في التخصص ذاته، فضلًا عن إسهاماته ومشاركته في العديد من المؤتمرات والمنتديات داخل الوطن وخارجه؛ فلا عجب أن تفرض أعماله وأبحاثه التاريخية نفسها على الساحة الفكرية بشكل عام، وبالتالي كان منطقيًا أن تحصد هذه الأعمال ما حصدته من جوائز؛ فعلى سبيل المثال؛ نال سيادته عنها جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2020-2021م، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية عام 2009م، وجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 2004م، وغيرهم من الجوائز والتكريمات.
إلا أنه في الآونة الأخيرة عرَفَنا على وجه آخر من أوجه مواهبه المتعددة، فقد ظهر لنا في السنوات الأخيرة كساردًا روائيًا ينْبأ بالتألق على الساحة الأدبية، وذلك عندما رأينا ما قدمه من أعمال روائية تاريخية، فقد أصدرت له دار الشروق رواية تاريخية بعنوان: ” يعقوب ” عام 2021م، تتناول شخصية المعلم يعقوب الجدلية، وكذلك صدر له من الدار نفسها هذا العام 2023م، رواية بعنوان: ” سلامٌ على إبراهيم ” في 124 صفحة من القطع الصغير، في إشارة إلى شخصية إبراهيم باشا بن محمد على والي مصر، وكما أشار الأستاذ الدكتور/ عماد أبو غازي، وزير الثقافة الأسبق، على ظهر الغلاف، بأن مضمون الرواية يتحدث عن السنوات الثلاث التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في مطلع عام 1946م حتى نهاية عام 1948م، ومن خلال ما يدور بين شخصياتها، وهم شخصيات تاريخية حقيقية نتعرف على بعض ما كان يدور في كواليس القصر الملكي في هذه الفترة.
وبالفعل وفي رأيي المتواضع أستطيع القول بأن المؤلف قدم لنا عملًا إبداعيًا جديدًا من نوعه في جنس الرواية التاريخية ومحراب ساحتها؛ بما يمتلكه من أدوات ومناهج البحث التاريخي كأستاذ أكاديمي مرموق في هذا المجال، وبما ظهر لي من معرفته الجيدة بأركان وعناصر السرد في الرواية الحديثة، فقد كانت هذه الأركان حاضرة بقوة وتوازن، سواء على مستوى الشخصيات أو الزمان أو المكان، وكذلك الأمر بالنسبة لتقنيات السرد؛ من حيث الوصف والحوار والأسلوب السردي بما فيه من أنواع الرواة، فضلًا عن اللغة وتشبيهاتها وتصويرها والحبكة والرمزية، دون الإخلال بالحدث والحقيقة التاريخية قدر المستطاع، وبالطبع فقد تضافرت هذه الأدوات والأركان والتقنيات لخدمة موضوع الرواية.
وفي هذه الرواية استخدم الكاتب ظاهرة “التناص” في أكثر من موضع – خاصة التناص مع القرآن الكريم – أولها العنوان، وكما يقول النقاد أن العنوان هو العتبة الأولى للعمل الروائي، فأقول بأن اختيار المؤلف لعنوان: “سلامُ على إبراهيم” الذي استقطعه من النقش الموجود على قاعدة تمثال إبراهيم باشا القابع في وسط ميدان إبراهيم باشا حيث توجد الأوبرا – كما جاء في الصفحة الأخيرة من الرواية – فالعبارة الكاملة المنقوشة على قاعدة التمثال هي: “سلامٌ على إبراهيم…قاد جيشه من نصر إلى نصر” فهذا الاختيار المستقطع من النقش ربما يتناص مع ما جاء في القرآن الكريم بالآية رقم (109) من سورة الصًّافات في قوله تعالى: {سلامٌ على إبراهيم}، والتي تعني في بعض التفسيرات، أنه لا يُذكر النبي إبراهيم من بعده إلا بالجميل من الذكر، وكذلك تدعو أحداث الرواية إلى ذكر إبراهيم باشا بعد رحيله بكل جميل، وذلك حينما فكر أحمد حسنين باشا ومن بعده كريم ثابت في تجميل صورة القصر أمام الناس من خلال الاحتفال بمئوية إبراهيم باشا بعمل فيلم يعرض محاسنه. ومن الوارد أن يكون هذا التناص مقصودًا منذ كتابة النقش على قاعدة التمثال، واستثمره المؤلف بهذا الاختيار.
ومن عتبة العنوان ينتقل بنا الكاتب إلى فصول الرواية مباشرة، دون إهداء أو تمهيد أو غير ذلك، سوى فهرس محتويات الرواية، ليسرد لنا أحداثها الماتعة في لغة سلسة، وزمن متأرجح بين الحاضر والماضي باستخدام تقنية “الفلاش باك” في بعض الأحيان لخدمة الموضوع.
ومع سلاسة وجمال اللغة نجدها تتناص أحيانًا أيضًا مع القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال؛ في ص 9 يقول الكاتب: “يدرك حسنين أن الأرض تميد من تحت أقدام مليكه…” فكلمة تمهيد – بمعنى تتحرك وتميل أو تضطرب – تتناص مع لفظة “تميد” الواردة في الآية العاشرة من سورة لقمان: {…رواسي أن تميد بكم…}، ونجد كذلك التشبيهات والتصوير البلاغي في هذه اللغة، مثال ذلك في ص 12 قول المؤلف: “عَبَّد طريقه جيدًا إلى قلب وعقل الملك…” وفي ص 21 : “أن القصر بعد حسنين فقد البوصلة”، أيضًا في ص 36 : “يحتسي نجيب القهوة…ومع أخر قبلة…” شبه القهوة بالعشيقة فكأن رشفات القهوة التي يرتشفها من الفنجان أو الكوب بمثابة قبلات من فرط حبه للقهوة وملازمتها له، وفي ص 71 شبه السلطان العثماني بسيدنا سليمان، على لسان إبراهيم باشا عندما كان في المنفى فيقول: “وأن السلطان العثماني مثله مثل الملك سليمان العجوز الذي مات على عرشه مستندًا على عصاه، لم يدرك من حوله موته إلا عندما نخر السوس عصاه وسقط أرضًا، هكذا أدركت مبكرًا أن الدولة العثمانية هي بحق رجل العالم المريض، وتنبأت بزوال الدولة…”، في ص 81 : “فض بكارة الحكايات…” هذا وغير ذلك من الأمثلة العديدة بالرواية التي أضفت اللغة عليها طابع الإمتاع، فهي ليست لغة مستغلقة أو شعرية، وإنما كلمات بسيطة مُعاشة ومفردات سليمة الأداء، وفي الوقت نفسه تبين تمكن الأداء اللغوي لدي المؤلف، الذي أخذ يتنقل بنا زمانيًا بين الماضي والحاضر بخفة ورشاقة في تصوير جميل، وذلك رغم أن الرواية حافلة بالمعلومات التاريخية وبالمادة الوثائقية التي تُعد ثقيلة على المتلقي.
وهنا يحضرني تسؤال للمؤلف وهو: هل لجأ د. عفيفي للسرد الروائي في عرض المادة التاريخية الوثائقية ليسهل قبولها ووصولها للمتلقي؟ خاصة وأن هذا العصر يطلق عليه الكثيرون أنه عصر أو زمن الرواية، فضلًا على أن قراءة التاريخ في قالبه الأكاديمي باتت غير رائجة لأسباب عديدة ومختلفة عند كثير من الأوساط المجتمعية وبعض الفئات العمرية، فإن كان كذلك فقد أصاب بإختياره هذه الوسيلة، فكونه رجلًا مهمومًا بقضية الوعي العام والارتقاء بالمستوى الثقافي والفكري والعلمي للأمة – وهذا إعتقادي فيه – ويدرك مدى التأثيرالقوي لأدوات العصر الحديث؛ مثل وسائل التواصل الاجتماعي وعناصر تحفيزها وجذبها، وبالأخص لفئة أطفالنا وشبابنا بما تبثه من مواد وألعاب اليكترونية بدم دائم التجدد والتغير، يسلب إرادتهم وعقولهم وتفكيرهم ويستحوذ على أوقاتهم، فضلًا على التأثير النفسي والسلوكي عليهم وعلى أفعالهم، ونحن نعلم أنهم عصب الأمة وآمالها، وهذه الأدوات مثل غيرها سلاح ذو حدين، إلا أن الحد السلبي هو الأكثر تأثيرًا في منطقتنا العربية وعالمنا الإسلامي، لأسباب عديدة يضيق المقام لمناقشتها، لاشك أن هذا له دور في العزوف عن قراءة التاريخ وغيره من العلوم، خاصة إذا كانت الموضوعات ثقيلة وجافة وأسلوب عرضها وتناولها منفر وغير جاذب، وفي نفس الوقت أصبحت القصة والرواية تلقى قبولًا لدى الكثيرين ومنهم الشباب، حتى شاع مصطلح أن الزمن ” زمن الرواية” – في إشارة بأن الرواية سحبت البساط من الشعر، وإن كان لدي تعليق على هذا – فإن كان المؤلف لجأ لعرض الحقائق التاريخية في سرد روائي من هذا المنطلق، فلا ضير في هذا، بل أنادي به في كافة العلوم والمعارف ليس في التاريخ فقط، بل في العلوم الطبيعية والتطبيقية، مثلما فعل المهندس عبد الحميد الشرقاوي في روايته “جاما” التي ألقت الضوء على علم الفيزياء ومُعامل جاما. على أن يكون هذا الاتجاه هو مرحلة انتقالية مؤقتة تجذب شبابنا للقراءة والتعليم وتفتح مداركهم وشهيتهم للمعرفة فيبحثون عن المعلومات في مظانها الأصلية والطبيعية بعدما جذبتهم الروايات ونبهتهم وحركت فيهم الرغبة في النهم المعرفي، وهنا حين تزداد نسبتهم نهتم بالطرق التعليمية المعتادة ونطور ونجود فيها بما يتناسب ومعطيات العصر. مع الاستمرار في عطاء الأدب وتدفق مجالاته ومنها الرواية، والتي نخص الدكتور عفيفي بالرواية التاريخية منها، وننتظر منه المزيد من مثل هذه الأعمال المفيدة.