قراءة في ديوان “قبل النشأة الأولى” لإسلام الهواري
إبراهيم أحمد أردش
“قبل النشأة الأولى” هو الديوان الأول للشاعر إسلام الهواري، وهو صادر في طبعته الأولى عن دار نشر “مختلف” بالقاهرة عام 2022م، ويقع الديوان في 110 صفحة وأغلبه من القصائد القصيرة والمقطعات والقصيدة البيت وبعض القصائد الطويلة القليلة. والشاعر إسلام الهواري من طائفة الشعراء الدرعميين الذين يجمعون بين النزعتين التراثية والحداثية من حيث الشكل الشعري.
يستوقفني عنوان الديوان في البداية، فالعنوان بالكامل عبارة عن حالة زمنية ظرفية، عنوان يتكون مضاف ومضاف إليه ووصف، صيغة نحوية تحفز ذهن المتلقي ليعرف ماذا هناك قبل النشأة الأولى، وإن كان العنوان عنوانًا لأطول قصائد الديوان، لكن في حالة وضعه على الغلاف يصبح عنوانًا للعمل كله، وأنا لا أتفق مع ربط العنوان بالنشأة الأولى المتعلقة ببدء الكون، وأرى أن هذه النشأة هي نشأة التجربة الشعرية والشعورية عند الشاعر، فالشاعر يقدم لنا ما قبل هذه النشأة أو المحفزات التي جعلته يقول الشعر.
يستفتح الشاعر ديوانه ببيت يقول فيه:
“لا غاب عنه الشعر في أسفاره
ما ضل صاحبكم –هواه- وما غوى”
وهذه الافتتاحية لا يخفى فيها الاقتباس القرآني في شطرها الثاني، أما الشطر الأول فيتحدث عن تشبث الشاعر بالشعر الذي ظل ملازمًا للشاعر في كل مكان وزمان، والحديث بضمير الغائب يضفي الموضوعية على الافتتاحية، لكن الشاعر في الحقيقة يمتدح ذاته.
ثم تأتي الإهداءات وهي إهداءات بليغة وقد وفق الشاعر في صياغتها، خاصة أن بعضها يفتح أبواب التأويل مثل قوله:
“إلى حبيبتي التي تصنعها حروف الشعر”
“إلى هؤلاء الذين يولدون كل يوم من أرحام الظلمات”
“إلى أول من تمنى أن يطوف ضوء الشمس حروفي بجناحي طائرٍ يحاول أن يطير”
يأتي بعد هذه الإهداءات، التقديم الأول للديوان، وهو للشاعر والناقد الدكتور/ أحمد الليثي، أستاذ الأدب العربي المساعد بجامعة المنيا وجاء التقديم بعنوان (عتبات التجربة) وكما يتضح من العنوان فإنه لم يتناول عتبات الديوان النصية، بقدر ما تناول عتبات تشكيل التجربة الشعرية الأولى عند إسلام الهواري، فتحدث عن التصوير والإيقاع عند الشاعر والموضوعات والأغراض التي وردت في الديوان.
أما الإهداء الثاني فهو للمسرحي وكاتب أدب الطفل والناقد الدكتور/ تامر محمد عبد العزيز أستاذ البلاغة والنقد الأدبي المساعد بجامعة المنيا، وتحدث في تقديمه عن التقديمات للأعمال الأدبية والمشهد الشعري الراهن وتجربة إسلام الهواري وما قد ينفع الباحثين في دراسة شعره، وقد ذكر الناقدان أهم ما في العمل المقدم من سلبيات وإيجابيات.
(2)
لعل أبرز ما يلفت النظر في ديوان قبل النشأة الأولى، هي العتبات النصية المقتبسة قبل ابتداء أغلب القصائد، حيث اختار عبارات تتميز بالحكمة والإيجاز ويزيل كل عبارة باسم قائلها وهي عبارات تنتمي لفلاسفة وشعراء وأدباء ومتصوفة ومناضلين وعلماء وشخصيات أدبية متخيلة وهم: (أفلاطون، جلال الدين الرومي، شيرلوك هولمز، أدهم شرقاوي، شكسبير، محمود درويش، أنيس منصور، ألبرت أينشتاين، فاروق جويدة، أحمد الشقيري، مارتن لوثر كينج، مصطفى صادق الرافعي، سقراط) وهناك إحدى الافتتاحيات باسم الشاعر أيضًا؛ ليثبت أنه جدير بالوقوف إلى جوار هذه الشخصيات المهمة في التاريخ، وكما يتضح فإنها شخصيات مختلفة؛ فهي من قوميات وأعراق عدة ويختلفون في العقائد والألوان واللغات والأوطان والأزمنة، فالشاعر أراد أن يصنع مزيجًا إنسانيًا مختلفًا، وقد كان لأفلاطون وجلال الدين الرومي النصيب الأكبر من الافتتاحيات، وهذا يشير إلى ذات عاشقة للمحبة والسلام النفسي وبغض الشرور، والتحليق الصوفي، لكن بعضًا من هذه الافتتاحيات كانت بعيدة عن النصوص المتعلقة بها، ما يلزم القارئ بجهد كبير، كي يربط بين المفتتح والقصيدة وربما لا يصل، وفي المقابل هناك افتتاحيات ترتبط بالقصائد على نحو مباشر لا يلزم من القارئ جهدًا ومن هذا قوله في قصيدة “صراع”
“أحياؤنا سكنوا المقابر قبل أن يأتي الرحيل”
فاروق جويدة
*
“متسابقون إلى الحياة كأننا
نحيا لدهر ليس يذكر غائبه
كم من قصور فارهات أصبحت
أطلال قبر بات يندب صاحبه
والموت حلق بالغمام كأنما
ألقى على كتف السماء خرائبه”
وقد كنت أتمنى لو توسط الشاعر في افتتاحياته، فلا هي بعيدة عن النص ويصعب فهم العلاقة بينهما، أو مرتبطة به ارتباطًا مباشرًا يوقف المتلقي عن ممارسة عملية التأويل.
(3)
كاد الديوان أن يكون موضوعة واحدة لولا بعض القصائد القليلة، فالديوان يحمل همًا ذاتيًا، يتعلق بالحب، خاصة حب الذكر للأنثى، ولم يكن ديوان قضية إلا في نهايته، لقد كان الشاعر يعبر عن نفسه، حتى حينما لجأ إلى الفخر الجمعي كان يفخر بذاته وأصوله، ومن ثمّ فإن الجانب الجمعي كان لصيقًا بالذات، وهذا من حق الشاعر أن يكتب كما يريد، وقد تجلى الحب على نحو عظيم في الديوان ووظف الشاعر لغة رومانسية رهيفة مشبعة بالرقة، غير أنه وقع في التناقض أيضًا يقول في قصيدة “عزف الأشواق”
أحبها دائما وتخاف خوفا
وقد قبلتها عشرين ألفا”
فبعيدًا عن المبالغة في عدد القبلات، إلا أن هذا البيت يتحدث عن ذات متكلمة جريئة وقوية، مسيطرة في الحب، بينما في القصيدة التي تليها بصفحة واحدة “آخر ما رواه الغروب” نجد ذاتًا ضعيفة تعاني من ابتعاد المحبوبة:
“ولطالما أيقنت أنك تاركي
فالقلب منكم قد أصيب بنار”
(3)
مما يميز الشاعر إسلام الهواري أنه يستطيع أن يقدم نفسه كشاعر البيت الواحد، أو البيت القصيدة، وقد ورد هذا النمط من الديوان في عدة مواضع، في قصيدة “العهد” مثلا يقول:
“قل للذين مضوا ما زال ذكرهم
بين الضلوع حديثًا أمسه غده”
فهذا البيت وفر على الشاعر والقارئ معا، ما يمكن أن تقوله عشرات الأبيات، يبدأ الشاعر بأسلوب إنشائي يتصدره فعل الأمر “قل” ثم ينتقل إلى الخبر الابتدائي ليتحدث عن هؤلاء الراحلين وحاله معهم، إنه بيت يعبر عن وفاء الذات الشاعرة وإخلاصها وعن قسوة هؤلاء الذين مضوا، وجمال البيت أنه لم يوضح من هؤلاء الذين مضوا، هل هي محبوبة الشاعر، أصدقائه، بعض أحبابه الذين ماتوا وتركوه، إنه يمنح الحرية للقارئ كي يكمل هو.
يقول الشاعر في قصيدة “حورية”
“ودنوت من عينيه حتى خلته
قمرا تبسم فوق عرش الماء”
وكما نرى استطاع الشاعر أن يقدم لنا البيت القصيدة في ديوانه
(4)
وختامًا لقد استطاع إسلام الهواري أن يقدم نفسه جيدًا في أولى تجاربه، الذي اعتمد فيها على أنماط مختلفة من التصوير وتنوع القوالب الموسيقية والشكلية، وما أتمناه في أعماله القادمة أن يخرج قليلًا من ذاتيته.