في رحاب الشطيبي 26
إدريس الزياتي
استغرقا القسط الأكبر من ذلك المساء بين أحضان الجبال ، يندبان حظهما العاثر ، ييتفحصان تلك الجغرافيا التي ترعرعا فيها فزادهما ذلك إرهاقا وعنتا ، يغبطان أترابهما في المدن ، إذ لا يعانون مثلما يعانيان ولا يعرفون للمشقة والعسر طريقا ، يعتقدان في ذلك مظلومية كبرى ، لكن سلواهما أن كل محنة توجد بداخلها منحة ، و أن من رحم الألم يولد الأمل ، فطالما عرفا أن بعض الأزمات صنعت رجالا ، وبعض الهموم والحاجات أفرزت سبلا موصلة . لم يكن ذلك تسخطا على أقدار الله وإنما مقاربة موضوعية لما ظل يتشدق به الكثير من أنصار الديمقراطية والمساواة والمواطنة والحقوق والحريات في وقت غاب فيه كل ذلك
يمضيان قدما نحو متاهة أخرى لا يعرفان لها نهاية غير الانتكاس والهبوط إلى الحضيض ، يتفاعلان مع الأفكار كما يتعاملان مع الواقع ، فلا الواقع يسعفهما ولا الأفكار لها جدوى ، لكنهما يجدفان ضد التيار، يصارعان الأمواج العاتية، يدفعهما العوز وشظف العيش إلى تبني كل ما من شأنه ان يبعث الأمل في النفوس، و يمنحهما الصلابة و المنعة لمزيد من التحمل والمواجهة
هكذا ينظران إلى البدايات ، في زمن تعرف فيه المحسو بية أزهى أيامها، ولعبة العصى والجزرة هي السائدة، فهؤلاء وأولائك يخوضون في كل واد تراهم يتهافتون عيانا لا شيء بات مخفيا ، في زمن ساد فيه قوة الجاه والسلطان وتخلف وراء ا الأبواب الموصدة أصحاب القيم . يتباهون بالعبودية كما تباهت الجاهلية بالأ نساب . هو اصطفاف من أجل المنفعة والمصالح الضيقة، كل يبحث عن طريق ليحسن شروط العبودية لا للقضاء عليها و التخلص من شؤمها .
يتدارسان هذا التهافت الذي وصل حد الخنوع لكن دم الأجداد الذي يجري في عروقهما يحثاهما على المقاومة والنضال فما كانا ليقبلا النكوص والخضوع والاستكانة ليدفعما دفعا الى الكفاح وكسر النمطية السائدة، يسوقهما سوقا إلى صفوف الذين يقولون لا ، ولا يحنون جباههم لكل ناعق أو مارق ، لكل مرتزق أوسارق . ينحازان إلى المطالب المشروعة والحقوق العادلة ، ولا يلقيان بالا للشيطان الذي يخوفهما او ويمنيهما . بل يقفان في شموخ كما فعل من قبلهم الأجداد في إباء .
هي مطيتهما تلك المساءات الموحشة ، بين القمم و التلال ، والأشجار العالية والطرقات الخالية بين الرعاة الذين انهكهم المسير ، والعائدين من الحقول منهكين ، وسطوة الليل البهيم ، والسكون المختلط بالأنين ، نداءات خفية تصدر في شجون ، لا تسمعها الآذان ، ولا تحسها إلا القلوب التي اكتوت بنار السنين ، بأعينهما يرمقان هذا الخواء ، ذاك الهبوب ، هو الشقاء السرمدي الذي يلاحقها في جنون . ولا يرى بصيص النور الذي يحلمان به يبرق من بعيد .