في رحاب الشطيبي ١٨
ادريس الزياتي
أعاد الكتاب بعناية إلى مكانه وعلى هيأته الأولى بطريقة تنم عن تقديره لصاحبه الذي اتخذه خليلا ، جلس قبالة رفيقه ، يتحدثان، يسترجعان الأيام الخوالى ، يطرقان أبواب كل طريف و مريح ، محاولين نسيان أو تناسي الشطيبي و ساعات البرد والقر وهو يجتاح أبدانهما الغضة ، ولا واق منه أو ملتحد إلا قاعات المطالعة ، أو الحركة الدؤوبة التي تجعل أجسادهما تبقي على دفئها و حرارتها ، هاهما الآن كأنهما ينعمان براحة بعد عناء ، بين ذويهم ، يأكلان أشهى الطعام وينامان في فرش دافئة لا خوف عليهما ولا مكدر لمزاجهما ، يستقبلان اليوم التالي بأهداف معلنة ، وبرامج لا معيقات تقف في وجه تحقيقها، فهي وإن كانت بسيطة فهي عميقة ومحفزة تؤتي أكلها في حينها ، يضعان خططا لكل الأوقات المقبلة، سعيا منهما في أن يستمتعا قدر الإمكان من تلك الأيام المتاحة قبل العودة .
قال مصطفى متسائلا غدا باكرا بعد تناول الغذاء ما رأيك أن نذهب إلى مازيغا؟
ثم استدرك قائلا :
لكن علينا أن لا نتأخر، سنعود مباشرة بعد صلاة الظهر إلى هنا ،إعلم هذا جيدا؟
أنا أعرف أهل البلد وكيف سيصرون على بقائك ؟
سيما وهم أقربأؤك الذين تزورهم لأول مرة وعلى حين غرة ، سيضغطون بكل ما أوتوا من قوة، لكنها ستكون زيارة خفيفة، تعدهم فيها أن تعود مرة أخرى طالما أنك عرفت المكان ، فتخصص لهم وقتا يليق بهم .
الهدف من هذه الزيارة الآن واضح، هو صلة الرحم فلا يصح أن تكون قريبا منهم إلى هذا الحد ولا تزورهم ، هذا و اجبي نحوك ، بعدها في يوم ما، في وقت آخر أنى شئت تقضي معهم ما تستطيع من وقت .
هز إدريس رأسه موافقا والحيرة قد دبت في أوصاله ، يعلم أن الأمر سيكون عليه صعبا ، لكن لا مفر من ذلك، سيما إذا وجد عمه قد عاد من مسجده فهو رفيق والده تربى بمعيته وهما من أهل القرآن أهل الله وخاصته يحسبهما كذلك والله حسيبهما ، يعد القدوة في مضمار صلة الرحم، فبعد وفاة عمه استيتو في زكورة الذي ظل طيلة حياته مكرسا لهذه القيمة العظيمة ، وهما بالطبع أبناء عمومة. أضحى العم يقطع المشوار من مازيغا عبر الضهار إلى الزاوية ثم العزيب فكيسان ثم سكورة ، فلا تعد المرات التي طرق عليهم الباب على حين غرة لا لشيء إلا ليطمئن عليهم ويقضي معهم ما تيسر من الوقت ثم يزور عمته في العزيب وكل الأقارب في الزاوية ثم يعود أدراجه ، حتى صارت عادته التي لا يحبسه عنها إلا المرض .
في غمرة الحديث الذي ذهب بهما كل مذهب حتى رمى بهما في كل واد سمع مصطفى النداء ، فلبى بسرعة ، وماهي إلا دقائق حتى عاد يحمل طشتا ومنديلا على كتفه اليمنى ، وهو يقول حي على العشاء . صب على صديقه الماء ثم ناوله المنديل، نظر إدريس إلى صاحبه فقال لا داعي للتكرار أنت تعرف الخبر، رد عليه مصطفى هل اقترب زمن الإنتخابات ؟
مد من الشعير يا صديقي ما عاد يكفي علفا للحمار الذي يركبه الوالد حتى . بل لا يشبع هذا الديك القادم مكتوف الأيدي بلا حراك في تبتل وطاعة . طفقا يضحكان من السياسة والسياسيين و سماسرتها المتحذلقين والأمين المتعالمين والمرتزقة والمتسلقين . لكن عزاؤهما في تلك اللحظات الماتعة المليئة أنسا ومحبة هو البدوك البلدي السمين كما يطلقون عليه في بلداتهم فهو خير زاد ونعم العتاد. .
قال وهو ييمم وجهه نحو الباب لا تنس أبدا هذه الآية العظيمة : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون. وما يليها من وعيد ، وهو يغادر الغرفة ، تاركا اصداءها تصطدم بالجدر ان ، لكن الشباب عزيز وأطواره غريبة. . …