فيلم “الرجل الذي باع ظهره”..الجسد تذكرة عبور المهاجر
كتبت تغريد بومرعي – أديبة ومترجمة لبنانية
قصة انسان سوري رسم تأشيرة “شنغن” على جلده لعلى وعسى يصل أوروبا
تسافر بنا الكاتبة والمخرجة التونسية كوثر بن هنية في فيلمها الجديد “الرجل الذي باع ظهره ” نحو عالم من السوريالية الممزوج بتراجيديا نعيشها يومياً في عالمنا العربي، حيث تطرح فكرة معاناة الشباب في هجرتهم اللااختيارية.
ابداع الكاتبة في المزج بين عالمي اللاجئين والفن المعاصر في الفيلم الذي تحاول من خلاله تصوير الوضع السوري، عبر قصة حقيقية لشاب سوري اسمه سام علي.
ويلعب الدور الرئيسي في الفيلم الممثل الكندي الجنسية والسوري الأصل يحيى مهايني إلى جانب الممثلين الفرنسيبن ديا أليان ، وكريستان فاديم والبلجيكي كوين دي والفنانة اللبنانية السورية دارينا الجندي، والتونسيين نجوى زهير وبلال سليم. الفيلم وصل القوائم القصيرة والنهائية للأفلام المشاركة في الأوسكار و”الغولدن غلوب”.
أحداث الفيلم
تبدأ أحداث الفيلم عندما يهرب سام علي من وطنه سوريا الى لبنان، ويتعرض سام للتوقيف الاعتباطي، ثم يلتقي برسام بلجيكي يعقد معه صفقة تقضي بأن يوشم ظهره بتأشيرة “شينغن”، ويعرضه كلوحة أمام الجمهور، ثم يبيعه في الفضاءات الفنية، لقاء تحقيق حلمه بالسفر الى حبيبته “عبير”.
لقد استوحت الكاتبة والمخرجة بن هنية فيلمها من أعمال الفنان البلجيكي المعاصر “ويم ديلفوي” المحملة بالرسائل والدلالات، حيث تجسد معاناة اللاجئين ومبدأ حرية التنقل، لا سيما اللاجئين الذين ينتمون للعالم الثالث، وتستعرض الكيفية التي يُجرّد من خلالها من صفته الإنسانية، حيث لم يولد في الجهة المناسبة من العالم، مما يفقده روحه وحريته في ظل ظروف قاهرة، قد تجعل من أي شخص الموافقة على عقد اي عمل او قبول اي عرض، ولو على حساب كرامته وانسانيته .
لحظات انسانية
الفيلم يأخذ المشاهد في لحظات انسانية قاسية عندما تواجه الشخصية صراعاً ذاتياً، يعيش داخل دوامة وجوده وتجربته الحياتية، وقد ورث حالة عدم المساواة تحت سلطة دكتاتورية.
وتتجسد هذه المشاهد وبشكل مؤلم لحظة وقوف البطل سام علي أمام الآخرين في المعارض والمزادات العالمية، باعتباره ” لوحة “، وليس فردا بشريا فقد روحه وحريته بحثا عن مخرج نجاة، ستكون مشروطة بـ ” النقص ” في سبيل الحصول على حياة أفضل.
وشاء القدر أن يلقى العمل الفني المرسوم على ظهر سام نجاحاً كبيراً، ترجمته المبالغ الخيالية التي وفرتها مزادات السوق. وبالرغم من النجاح يواجه البطل المقايضة الاجحافية بالتنازل عن ثلث إيرادات مبيعاته، وفي هذا فلسفة تأملية لمغزى رمزي آخر في الفيلم ..!! وبين تفاصيل المقايضة، هناك بعض الرسائل المبطنة حول البضائع التي يمكنها أن تنتقل بحرية في العالم ، ولكن ليس هذا المسجون بين جدران جسده أن يتجاوز واقعه الذي سجن فيه .
باع نفسه للشيطان
أحداث الفيلم كثيرة، وفِي كل حدث هناك فكرة شديدة الأثر عظيمة التأمل. وثمة فكرة تدور حول ثيمة الرجل الذي باع نفسه للشيطان، وهي فكرة مأخوذة من مأساة الدكتور فوستس في مسرحية تراجيدية إليزابيثية بقلم كريستوفر مارلو، حيث يعطي بطل تلك المأساة روحه لأبليس كثمن مقابل تلك الحياة. وهكذا هو حال بطل الكاتبة والمخرجة التونسية كوثر بن هنية الذي أعطى جسده مقابل حرية التنقل التي يعاني منها كل اللاجئين وغيرهم من الذين ينتمون للعالم الثالث. وإذا تطرقنا لهذا المشهد من زاوية أخرى، لوجدناه شبيهاً بمأساة ( الموديل )، أو الجسد الذي يتعرى كي يأكل أو كالمثل الفصيح القديم «تجوع الحرة ولا تأكل بثديها». فالفكرة الدرامية واحدة والتناول مختلف وهي البيع والشراء؛ وبئس البائع وبئس المشتري.
سام علي باع ظهره بالمعنى الحرفي، والمفارقة أنه أصبح جزءا من عالم الفن، حيث كشف جلدته، كما فضح المعتقدات الشخصية والداخلية في ثلاثية معروضة بشكل متعمد امام المؤسسات التي تسيطر وتتحكم بالعالم سواء من خلال الفن او من خلال اي شيء آخر( مشتر ، متحف، ناقد).
فالفيلم يصور هذا الإنسان المتهالك تحت وطأة اللجوء والاستغلال، حين يبيع جلدة مستهلكة، سوف تختفي من الوجود يوما، وتخسر كل قيمتها المادية والمعنوية.
تأملات أخيرة
وعادة نتأمل رسومات على خشب او خزف او طين او قماش، اما ان يغدو الجسد جدارا او معرضا او مرسما او لوحة بل ومشهدا سينمائيا من أجل أن يعبر إلى الحياة ، هي قمة المعاناة ، هي غربة الى اللامكان حيث حوصرت المساحات فلم يبقَ مساحة لاحتلالها واستعبادها سوى جسد بشري ، ظهر رجل ، شاشة استعراض، كما في رواية “بريد الليل” للروائية اللبنانية ” هدى بركات” الحائزة على جائزة البوكر عام 2019، والتي تحكي عن معاناة اللاجئين السوريين وهم يهاجرون إلى اللامكان.