فيزياء قصصية لرد الاستلاب بين كرمة سامي ومرفت يس
فيزياء قصصية لرد الاستلاب بين كرمة سامي ومرفت يس

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد
لماذا القصة القصيرة؟
إنها الإبداع الذي يقاوم الفقد اليومي الممنهج المفروض من منظومة تأطير صور الحضور الاجتماعي بصدد توق الذات الفردية لأفضية مضاءة تسمح بالحرية النفسية التي تتجلّى فيها حقيقة الإنسان.
لا تطمع القصة القصيرة في أدوار البطولة لشخصياتها المستنزفة التي تحاول عبور الحواجز القصيرة والمتاهات الضيقة، إنها تريد أن ترى الإنسانية هؤلاء فقط لعلها تعلو بسقف التسامح والمودة والارتقاء الشعوري دون تصدير أشكال افتعال التصادم بين الإرادات غير المتكافئة، تلك هي استراتيجية القصة.
وصف فرانك أوكونور فن القصة القصيرة بأنه الصوت المنفرد لأنها تمنح حق التعبير ضد الفراغ الذي يبدد صيحات المتعبين في الفضاء البارد السائد في مدن لا يجد الإنسان ما يتعلل به فيها. إن هذا الوصف هو تناص الاغتراب بين أوكونور الناقد الغربي والمتنبي الشاعر العربي، وإذا كانت النفوس كبيرة التقت عبر المجرة الثقافية، فعالمنا الروحي مكتبة كما يرى الجنوبي بورخيس.
كيف ينطق الراوي في القصة القصيرة بما لا يقال؟
هذا هو السؤال الذي نحاول أن نلتمس إجابته في قصة “أي يوم جمعة” لكرمة سامى من مجموعة “مريم حكايا”(الكرز/ القاهرة 2002) وقصة “ألوفيرا” لمرفت يس من مجموعة “دموع الألوفيرا”(ميتابوك/ القاهرة 2023) كلتا القصتين تعالج ظاهرة الاستلاب في حياة المرأة، وتستخدم أساليب المسرح في التعبير القصصي.
القصة القصيرة عند كرمة ومرفت أداة مقاومة لطرح قضايا اجتماعية تتصل بالحياة اليومية للمرأة، وتمتد تلك القضايا في فضاء الزمان والمكان متغلغة في تفاصيل السلوك، وباعثة في النفوس ذاك السحاب الخانق المعتم الذي يبتلع مشاعر المرأة وحياتها أو يتركها وحيدة كممثلة بائسة لإنسانية مغدورة انسحب الضوء من مساحة حضورها وانفضت الفرجة عن عرض ألم وجودها.
لماذا يتحول الفضاء السردي إلى ما يشبه “سينوجرافيا” لعرض مسرحي؟
المشاهدة، بث صورة العرض في السرد، هذه التقنية تختار لها كرمة سامي “المونودراما” شخصية الأم التي تعد ابنها للقاء الأب، طليقها الذي يذهب إليه الطفل يوم الجمعة، سينفصل الابن عنها إلى عالم الآخر الذي انفصل عنها فيما سبق، إن الابن متنازع عليه، لا صوت له، إنه يستمع إلى صوت الأم التي تخبره بما تراه مناسبا للزيارة، وهي تخشى أن يكون صوت الأب أكثر تأثيرا فيه، تخشى على الكائن الذي نشأ في أعماقها، الإنسان الذي يبقى لها.
في هذا السياق نستمع عبر السطور الحوارية المكتوبة إلى صوت واحد فقط هو صوت الأم الذي يتوجه إلى الابن في نسق مسرحي، كل تفاصيله تشي بالخوف والترقب، الأم هي الصوت الفاعل للخطاب الذي يتخذ النزعة الإنجازية، نصائحها التي يستمع إليها الطفل الذي لا نقرأ كلماته تتجاوز كونها تعليمات للصغير، إنها خطاب غير مباشر للكبار، للزوج وأسرته، إن الطفل نفسه يصبح رسالة، سلوكه يتحدث بما تبثه فيه ليحقق الصورة المثالية التي تتمنى أن تصل إلى الآخر الذي لم يكمل معها الرحلة، مع أن بينهما طريقا لا يمكن تجاوزه يسير فيه صغير لا يدري لماذا يفعل الكبار ذلك به.
إننا نرى الطفل من خلال ردود أمه عليه، لكن النص يحذف صوته، الحذف فراغ، الذات لا تشغل حيزا في فضاء الخطاب، فيزياء صوت الطفل لا تستطيع التفاعل مع الهواء، لا تمر إلى المتلقي، إن الخطاب يفقده النطق، يفقده حق التعبير، يفقده الإرادة، لكن الفيزياء الخاصة بينه وبين الأم تسمح لها بالتقاط صوته الذي لا يصل لأحد غيرها.
يتبنى الخطاب السردي موقف الأم، يشعر بها، يتمثل المفاهيم التي تجوب في ذهنها بصدد الخوف على الطفل من عالم الآخر بخطاباته ورسائله وتوجهاته التي يمكن أن تنال من صورة الأم في نفسه، من تغيير ميزان القوة بالضغط على الابن في النزاع، إن الأم نفسها تواجه ضغطا مزدوجا فمشاعرها السلبية تجد تنفيسا لها في حضور الابن الذي يمكن أن ينقل خطابها العدائي إلى الجانب الآخر من ناحية، لذلك تحاول أن تخفف نبرة الغضب قبل انصراف الطفل إلى أسرة الأب الجديدة من ناحية ثانية، إنها تنحو إلى تحقيق التوازن الصعب في المعادلة.
إنها الطرف الضعيف لأنها لا تملك القوة المادية لطليقها وأخته، لا تستطيع توفير معطيات العالم الذي يتوافر للطفل في المكان الآخر، هذه النقطة أساسية في الإخلال بالعلاقة التي تربط الطفل بها، إن الجاذبية تغريه بالتحول إلى مجال الكتلة الأخرى في ذاك الفضاء المضطرب الذي تؤدي المادة فيه عنصرا محوريا في رفع سقف الطموح النهم لطفل يتطلع إلى وسائل الترفيه المتاحة له هناك في المشهد الانتظاري حيث بيت الأب، ويمكنه أن ينهل منها وأن يجمع من إشباعه بها ذكريات يبارز بها أصحابه في ألعاب التفوق اليومي.
وفي المقطع السردي الختامي لذاك الحوار المبتسر يأتي منطوق الكلام بتقنية صوت الراوي الذي يقوم بالتعليق على مسرحية، صيغة المضارع والحركة وفعل الأمر الموجه للطفل الذي محا الخطاب صوته، يترك النص الصورة الكلامية أمام المتلقي الذي يستقبل ما يشبه مسرحية من مشهد واحد مفكرا في هذه البنية التعبيرية مستدعيا ما يحاكيه السرد الممسرح من مواقف مناظرة في ذاكرة خبراته المرجعية، فالنص لا يمر دون صدى يتردد في مدارك المتلقي.
انطلقت قصة “أي يوم جمعة” لكرمة سامي من استراتيجية مسرحية تدعو إلى تأمل موقف مشحون بكثافة تعبيرية تولد الأفكار من جدلية المنطوق والمحذوف، تتكلّم الأم المهددة في السياق الدرامي النصي وما يماثله في سياق الواقع بفقدان الابن معنويا نتيجة صراع غير عادل تفرضه قوة المادة التي يملكها الأب المحذوف حضوره المادي لكن هيمنته المعنوية على اهتمام الأم ومقاصد الطفل واضحة، النص يرد الاستلاب بصوت الأم الموجه إلى الابن وإلى نفسها وإلى مساءلة ضمير المتلقي الذي يشاهد العرض القصصي.
في قصة “ألوفيرا” لمرفت يس يوظف السرد تقنيات المسرح بمزيج من التعبيرية التي تخاطب الذهن والانطباعية التي ترسم عناصر القصة من منظور وعي طفولي عاش تجربة الاستلاب ورسخت صورتها في ذهنه، وحينما تضع الساردة نبتة الصبار بجوار أختها الراقدة في عالم السكينة تحتفظ بفعل الرحيل لنفسها، فالأخت التي عاشت هامشا مبتسرا من الحياة ستعيش في القصة بجانبها الحارس الذي ينطق بصوت التاريخ الشاهد على ألم الراحلين.
تستخدم مرفت يس في قصة “ألوفيرا” بنية المسرح من خلال ثلاثة مشاهد تسبقها افتتاحية وتعقبها خاتمة يسدل فيها الستار على الزهرة الرامزة للصبر المقاوم للجفاف فيسري صوت الساردة الأخت بعين الطفلة اليقظة التي حفظت درس مطالعة حصص الأسرة لتنجح بتفوق في استحضار تفاصيل حياة مبتورة في لقطات محددة لأن ما بينها ليس سوى أيام متكررة في نتيجة الاستلاب.
صيغة المضارع التصويرية التي تعرض حضور الأخت بكامل حيويتها المتدفقة وهي تعد نفسها ليوم عمل يتحقق فيه وجودها في عالم المؤسسة الذي يحاكي حضور المرأة العاملة في أفلام الستينيات والسبعينيات التي تراها طفلة الثمانينيات الراوية خارج حصار البيت الذي ترى فيه صورة أخرى لأختها وهي تتلقى المهانة كأجيرة بلا ثمن عند أخيها المتغطرس.
تلك الحافظة الخصبة التي تطرح قصة حافلة بدقائق الصور والأفعال، صيغة رفض الاندثار في الماضي واستعادة حضوره لمعايشة جماليات اللحظات القليلة التي تألقت فيها الأخت الكبيرة، وبث فيلم الألم اليومي والسنوي والعمري الذي أطاح بأحلامها وصحتها، الطفلة التي كبرت ترد الاستلاب بصوتها الحاكي العارض لتفاصيل التحقق والإخفاق في حياة مختصرة لبطلتها الساكنة ذاكرتها.
تضع مرفت يس صورة الأخت أمام أختها الساردة في عرض مسرحي تسلط فيه الإضاءة على طقوس الخروج اليومي قبل استيقاظ الأخ المتسلط، لحظات أنثوية تتحول فيها الأخت إلى صورة مشحونة بالجمال الحيوي المحدد بأدوات بيئية ذات عمق تاريخي يسطع في قطعة زجاجية من مرآة الأم المكسورة، واقعية رمزية لميراث الانكسار والتحايل على كتلة الحواجز التي تقطع طريق التحقق بالمتاح من منثور العالم.
الأخت الكبرى وهي تقوم بفعل الزينة قبل النزول إلى العمل لا تنعكس صورتها التي تحقق وجودها في شظايا المرآة المثبتة بقطعة العجين في جدار الحجرة الموصوفة بعين مدركة لجماليات الفن التشكيلي حينما يستخدم في إبداع الديكور المسرحي فقط إنما تنعكس تلك الصورة المفضلة لها في تلك العين التي ستمنح السرد مادة لحضور جمالي متدفق لا يقل عن الجمال الذي تراه عين تلك الأخت الساردة في عالم السينما المتخيّل الذي يتحدث عن حياة في مدينة لم تفرز عشوائيات الثمانينيات وسينما المقاولات بعد، إن الوصف الدقيق لا يشبه ديكور المسرح فقط بل لوحات رينوار، ويستدعي في تناص نسقي قصة عايدة وأختها بدور في ثلاثية نجيب محفوظ التي ستموت فيها عايدة مستهلكة في بيت البيروقراطية مثلما تموت الأخت في قصة “ألوفيرا” ضحية قسوة حياة تنفيها خارج سياق التمني، والأخت الرواية تمزج عين الطفلة بوعي المرأة الناضجة لتوازن بين أزمنة القصة وزمن السرد.
كانت استراتيجية المسرح المؤسسة على تقنية الحوار وإخفاء صوت الطفل الذي لم يكتمل وعيه، وإنطاق صوت الأم بهموم يتحملها إدراك ذاك الابن الموجه إليه الحديث، أدوات كرمة سامي في صياغة فيزياء تعبيرية الاستلاب، وكانت البنية المشهدية بجماليات الوصف واستقصاء التفاصيل والانتقاء الدرامي والفجوات الزمنية أدوات مرفت يس في رسم الصورة التأثيرية للاستلاب، وكانت صيغة المضارع التصويرية التي تكرّس طقس المشاهدة أداة أسلوبية لكرمة ومرفت في كسر الحائط الوهمي بين السرد والعرض المسرحي، أو بين الإخبار التاريخي بصدد المنقضي والحضور التمثيلي الذي يتنفس في أجواء الاتصال ومدارك التلقي ومخيلة قارئ محتمل لديه جسارة تفعيل الرؤية ومناقشة قضايا الحياة بعقلانية في العروض الثقافية اليومية التي تشغلها الآن استوديوهات التحليل الكروي.