عرض كتاب: جبل الثلج العائم

عرض : أشرف خيري يوسف
كثيرًا ما قدم الأستاذ/ شوقي بدر يوسف- وهو الناقد الغني عن التعريف- رؤى نقدية هادفة متعمقة في النص وداعمة للكُتاب والمبدعين بخاصة، وللكتابة والعملية الإبداعية بعامة، ليس في مصر وحدها، وإنما في عالمنا العربي بأكمله شرقًا وغربًا من خلال أعماله وإبداعاته المتعددة ومقالاته ودراساته المنتشرة في كافة الإصدارات الأدبية بدور نشر متعددة ودوريات متنوعة ومعروفة في وطننا العربي، فضلًا عما يدلي به من آرأء في المنتديات والمناقشات ووسائل الإعلام المختلفة، ومن بين دراساته الكثيرة كتاب: “جبل الثلج العائم”، الصادر عن نادى القصة ضمن سلسلة الكتاب الفضي، في طبعته الأولى عام 2007م، ويقع في 233صفحة من القطع الصغير.
ففي هذا الكتاب نجد “بهدوء ودأب يحمل ناقدنا الكبير قلمه النقدي في نصوص ربما غاب عنها قلم الناقد، موجهًا رؤاه النقدية وجهة تتعمق النص دون السبب في ضياع مقوماته، هاهنا هو يقترب من القصة القصيرة ذلك الفن الذي كاد النقد أن يهجره إلى مقولات الرواية، “منطلقًا من مبدأ له وجاهة: فكل نص قصصي به جبل ثلج عائم يصل من نسيج النص، وتتمحور حوله دلالة معينة، وفكرة محددة يعول عليها الكاتب في التعبير عن تجربته القصصية”
تناول الكتاب – بعد الإهداء والمقدمة – مجموعة من الدراسات القيمة حول مختارات من أعمال بعض الكتاب الذين ضرب بعضهم بسهم وافر في مجال الكتابة والبعض مازال في بداية الطريق- كما أشار الأستاذ/ شوقي في المقدمة- (وهو ما دفعه إلى استكناه تجربتهم والوقوف أمامها، وهذا الاختيار الذي منحه لهذه النماذج الفنية من القص المعاصر، “ربما يكون مستمدًا من الثيمة الأساسية التي اختارها الكاتب لمادة عمله القصصي، ربما تكون خصوبة التجربة وعمق بكارتها، وربما أيضًا تحمل في بنيتها الذاتية طابع الكاتب في التعبير، ورؤيته عن عالمه الخاص، وتجربته أيا كانت درجة نضوجها، وهى مهمة ليست سهلة في محاولة الغوص داخل هذا الجبل الثلجي العائم داخل النص القصصي لكل كاتب، بحيث نحاول اختزال رؤيته إلى قطرة بسيطة، أو نبضة فاعلة نتبين منها طريقه نحو تشكيل وإعادة صياغة واقعه الخاص، أو الواقع الذى يرتاده. وهو ما اتضح من محاولة تلقى عملية المفارقة في قصص محمد صدقي من خلال آخر مجموعته القصصية “زوجات الآخرين”، كذلك النزوع الدائم المستمر إلى التجريب عند القاص محمد الصاوى من خلال مجموعاته القصصية “الجدران الأربعة”، “نهر النسيان”، “الثور والعذراء”، “كليوباترا”، وكذلك هاجس الذات وما يفعله الهاجس من تحورات الشخصية في مجموعة “وجوه” للقاص مصطفى نصر، والعزف على تنويعات إنسانية كما جسدها الكاتب محمد الجمل في مجموعة “جوع القلب”، كما وقفت الدراسة أيضًا أمام القصة والتاريخ خاصة التاريخ الفرعوني من خلال مجموعة القاص قاسم مسعد عليوة ” عربة خشبية خفيفة” وحاولت إبراز جوانب تجربة القصة والتاريخ من خلال هذه التيمة التى احتفت بمنطقة وُجدت بكثرة في الإبداع الروائي، ولكنها كانت في القصة القصيرة من الندرة بحيث أصبحت الكتابة فيها تعطى لهذا الإبداع ذائقة خاصة في التناول والتلقي، كما عرجت الدراسة أيضًا إلى محاولة استنباط استراتيجية المعنى في مجموعة ” غرفة ضيقة بدون جدران”، للكاتب السيد نجم، كما تصدت الدراسة أيضًا إلى ازدواجية التعبير في مجموعة” ملاح الشواطىء البعيدة”، للقاص رمسيس لبيب، وتجليات الكتابة الأنثوية في مجموعة ” البنت التى سرقت طول أخيها”، للكاتبة صفاء النجار، وقد اختتمت هذه المجموعة من المداخلات بتجسيد الصوت المنفرد للقصة في مجموعة “وخز الأماني” للكاتب محمد عطية محمود. وهى مداخلة تنسحب على كل المجموعة بالإضافة إلى الاحتفاء بهذا المصطلح الذى بدأ به المقدمة وأعطاه العنوان الرئيسى لهذه المجموعة من الدراسات وهو مصطلح ” جبل الثلج العائم”).
ولصعوبة الحديث عن كل أعمال الكُتاب التي تناولها المؤلف – نظرًا للمساحة المتاحة للعرض – نكتفي بالإشارات السابقة إليهم، ونختص من بينهم ببعض التفصيل للكاتب محمد الصاوي.
“النزوع إلى التجريب” هو العنوان الذي اختاره الأستاذ/ شوقي، لدراسته في قصص محمد الصاوي، من خلال عدة عناصر أو محاور هي: ( لذة الكتابة- مغامرة التخييل- الغرائبي وحس الإبهار- تجربة البدايات- بنية النص ودلالاتها عند الصاوي- سيكولوجية المدينة).
وقد صدر الدراسة بمقولة “أندريه بيرتون”: ” ليست الخشية من الجنون هي التي ستجبرنا على تنكيس رايات الخيال”.
عن لذة الكتابة التي رأينا الحديث عنها هي وعنصر مغامرة التخييل: يرى ناقدنا أن القصة القصيرة لها بريق خاص، وسحر لا يُقاوم عند كاتبها وقارئها على السواء، لما تُحدثه عند كليهما من لذة خاصة في ممارسة لعبة التخييل والتفسير والتأويل. والقصة القصيرة كانت في صراع دائم مع نفسها كفن حديث تتلاحق فيه الأحداث كبناء، ورموز متشابكة مؤولة، وكشكل ليس له إطار خاص يُعرف به، كما كان الصراع نفسه يمور داخل ذوات الكُتاب أنفسهم في محاولاتهم الجادة لتأصيل هذا الفن الوليد منذ بداية ظهوره على الساحة الأدبية، وكان النزوع إلى التجريب المستمر لهذا الفن في مختلف أشكاله وتوجهاته، وأزمانه المختلفة هو الشغل الشاغل لكُتاب القصة خلال مراحل تطور هذا الفن، حيث يتوجه التجريب دائمًا إلى إيجاد استثناء من القاعدة، ورؤى تستهدف الشكل قبل المحتوى، وبحث دؤوب من كل كاتب يطمح لإيجاد صيغة خاصة به وحده، يُعرف بها، وتكون علامة وبصمة في عالمه القصصي تميزه عن غيره من الكُتاب وذلك من خلال المعاناة والصبر والاجتهاد في استخدام تقنيات جديدة تؤصل الشكل والبينى السردية، والرمزية لهذا الفن الأدبي الذي يجد الجميع لذة خاصة سواء في كتابته أو قراءته أو معايشة نصوصه السردية والحكائية على السواء.
أما عن رؤية ناقدنا لمغامرة التخييل في أعمال محمد الصاوي: يرى أن في ولعه الخاص بالعبث بالمسرود القصصي والحكائي، وفي محاولة لكسر رتابة الشكل المسرود واستلهام رؤية جديدة لإيجاد بناء فني خاص، استكمالًا لما طرأ على المشهد القصصي والروائي، ، من زخم في الرؤى الجديدة والتغيرات التي شهدها هذا الفن في هذه المرحلة، خاصةً مرحلة الستينات وما بعدها، وفي ظل هذا يظهر القاص الروائي محمد الصاوي بمجموعة من القصص القصيرة طرحها على الساحة القصصية بمنظور جديد واكب فيه إنتاج تيار هذه المرحلة الذي كان يدخل فيه الإبداع مرحلة تجريبية، وينتقل عبر روافد إبداعية حداثية تنهل من منابع التيار السيريالي والتاريخ والوثائقية والعبثية ونزعات التمرد والغموض وغيرها من وسائل التخييل السردية الضاربة بجذورها في ساحة القصة القصيرة والرواية العربية على السواء.
فقد صدر لمحمد الصاوي أربع مجموعات قصصية هي: ” الجدران الأربع 1964″، ” نهر النسيان 1965″، ” الثور والعذراء 1970″، ” كليوباترا 1983″، كما صدر له كولاج قصصي بعنوان ” الدوخة ” عام ” 1966″ استوحى بعضًا من قصصه من عالم السينما المصرية الصادرة له فيه عديد من الكتب الراصدة لأهم نجومها وأعمالها، كما صدر له أيضًا في مجال الرواية روايات ” ( أوديسا الصعود 1979″، ” البياصة 1984″، ” سوق الكانتو 1995″، ” الباب الأخضر 1995″، ثم صدرت له ” سباعية مدينة قديمة 2001 ” وهى سباعية تتكون من سبع روايات: ” باب سدرة “، ” كوم الشقافة “، ” باب عمر باشا “، ” كوم الدكة “، ” الأنفوشي “، ” كوم الناضورة “، ” زنقة الستات ) وهى متتابعات ومتواليات روائية جديدة تُضاف إلى المنظومة الإبداعية المدينية التى تناولت مدينة الإسكندرية.
وأخيرًا كنا نود أن نُبحر في أعماق جبل الثلج العائم، لناقدنا ومبدعنا المٌبرز الأستاذ/ شوقي بدر، لنذوب سويًا فنتعرف على لئلائه وأصدافه، ولذا نأمل أن نجد الفرصة وتسنح الظروف بإتاحة المساحة لنعود إليه ثانيًا مع أعمال كاتب أخر، وليكن الأستاذ/ محمد عطية محمود، الذي أُختتمت الدراسة بأعماله، وسنعتمد في إظهارها – بإذن الله – للقارىء الكريم على ما سطره الناقد بقلمه، كما فعلنا مع الكاتب محمد الصاوي – رحمه الله – فما عرضناه هو مختارات من قلم وأسلوب أستاذنا الكبير شوقي بدر، متعه الله بالصحة والعافية، وأفاض عليه من فضله بمزيد من الابداعات والدراسات النافعة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: