عرض كتاب الموروث الكنسي بين الرواية العربية والرواية الغربية كتاب في سطور

"ثيماته الموضوعية، وبناه الفنية"

عرض : أشرف خيري يوسف
أثارت روايات الكاتب الأمريكي “دان براون” جدلًا وانتقادات واسعة من قِبل المؤسسة الدينية المسيحية في أمريكا وأوروبا، وبخاصة روايته “شيفرة دافنشي” ومن بعدها روايته “ملائكة وشياطين” وما أثارته رواية “شيفرة دافنشي” تحديدًا من جدل وانتقادات يشبه إلى حد كبيرالجدل الذي أثارته رواية “عزازيل” المنسوبة للدكتور/ يوسف زيدان، في مصر، لذا استعان بها وبغيرها من الروايات الدكتور/ محمد عبد الحميد خليفة – أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية، جامعة دمنهور- في دراسته المنهجية الماتعة الصادرة في 163 صفحة من القطع المتوسط، عن مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر، في طبعتها الأولى عام 2018م، وذلك لاستجلاء صورة التأثر بين رواية “عزازيل” من جهة، وروايتي “تاييس” للفرنسي “أناتول فرانس”، و”اسم الوردة” للكاتب الإيطالي “أمبرتكو إيكو” من جهة أخرى، على فرض أنهما تتناصان وتتصلان برواية “عزازيل” بصلات فنية بنائية، وتتشابهان معها في المحتوى الموضوعي، ولأجل ضبط الرؤية المقارنة استعان المؤلف بروايتي “دان براون” السابقتين- “شيفرة دافنشي” و “ملائكة وشياطين”- إضافة لرواية “هيباتيا”، “لتشارلز كينجزلي”، وهنا رأي المؤلف وهو الباحث الأكاديمي المتمكن من امتلاك أدواته، أن المنهج التحليلي والمقارن هو الأنسب في دراسة ظاهرة الموروث الكنسي بين الرواية العربية والغربية، فجاءت الدراسة في تمهيد وخمسة فصول وخاتمة، وقبل الحديث عن محتوى هذه الفصول وما تناولته، أود الإشارة إلى بيانات الروايات محل الدراسة والمقارنة بعزازيل التي كان أول ظهورها عام 2008م؛ ولنبدأ بالروايتين المتصلتين بعزازيل بصلات فنية بنائية ومتشابهتان معها في المحتوى الموضوعي وبالجملة تتناص رواية “عزازيل” معهما بشكل أو بأخر: 1- رواية “تاييس” للفرنسي “أناتول فرانس” المتوفى عام 1924م،نُشرت لأول مرة بالفرنسية عام 1890م، ونقلها إلى العربية أحمد الصاوي محمد عام 1921م، عن دار الهلال.2- رواية “اسم الوردة” للمبدع والناقد السينمائي الإيطاليّ “أمبرتو إيكو” التي ظهرت بميلانو لأول مرة عام 1980م، وترجمها أحمد الصمعي إلى العربية ونشرها بتونس عام 1991م. أما الروايات المتشابهة مع “عزازيل” في المحتوى دون الشكل البنائيّ فهي: 1- رواية “هيباتيا” للأديب والمؤرخ الإنجليزي “تشارلز كينجزلي” المتوفى عام 1875م، ونُشرت بإنجلترا لأول مرة عام 1853م.2- رواية “شيفرة دافنشي” للأمريكي “دان براون” التي ظهرت بالعربية عام 2004م ببيروت لأول مرة.3- ثم روايته ” ملائكة وشياطين” التي ظهرت أيضًا ببيروت لأول مرة عام 2005م.
أما عن محتوى الدراسة؛ فقد بدأها المؤلف بمقدمة منهجية أوضح فيها أسباب الدراسة وأدواتها وفرضياتها والمنهج المتبع فيها والمحاور الأساسية التي بنى عليها دراسته، فكان المحور الأول مختصًا ببنية الشكل فركز فيه على ما افترضه من حيل فنية متشابهة، انبنت عليها الروايات، وجعل المحور الثاني متجهًا إلى بنية الشخوص، فحاول فيه رصد ما اسماه تواترًا أو تشابهًا بين ثلاث شخصيات رئيسة تراتب وجودهم، وتشابهت وظائفهم وأدوارهم بين الروايات الثلاث إلى حد التطابق؛ وهم: شخصية الراهب السارد، وشخصية المرأة التي تمارس دورها في غواية الراهب، وشخصية الشيطان المصاحب للراهب في أثناء اعترافاته. ذلك بخلاف البنيتين الزمانية والمكانية اللتان توقف عندهما لامتداد تشابهما في الروايات التي اعتمدت جميعها على الحكي المستعاد القائم على تقنية الاسترجاع الزمني، وكذلك التشابه في وصف المكان، حيث تواتر وصف أماكن بعينها كالصومعة داخل الدير، والدير من خارجه إلى جانب بوابة المدينة التي يقع فيها الدير، وأثر هذه اللوحات الفنية في إبطاء سرعة السرد، وفي الأخير نجد للمؤلف وقفة لدى الحدث الروائي وهو المحور الأهم، لِما يتصل به من محتوى موضوعي، فقد لاحظ المؤلف أن التشابه قد انتهى إلى أن هذه الروايات تحاول كشف لونين من الصراعات التاريخية، التي تمثل جزءًا من موروث الكنيسة، وهما: الصراع العقدي الناشب حول طبيعة السيد المسيح، والصراع الفكري بين الدين والعلم، إضافة إلى تجليات هذين الصراعين الدموية، كما تؤكد ذلك كتب التاريخ بوصفها حقائق مؤسفة تشكل جانبًا كبيرًا من موروث الكنيسة وتاريخها.
بعد هذه المقدمة يضع المؤلف تمهيدًا هامًا ورائعًا لهذه الدراسة العلمية القيمة قبل البدء في محاور وفصول الدراسة، وهو بهذا التمهيد رتب عقل القارىء حتى لا تلتبس عليه الأمور في هذه الدراسة المتشابكة الموضوعات والمتعددة الإشكالات الحساسة والحرجة أحيانًا، فأشار لنا في هذا التمهيد إلى ما ينشب دائمًا من جدل حول بعض المقولات العقدية المسيحية، منذ ظهور المسيحية وعبر ما يناهز قرونًا خمسة عشر، التي سرعان ما تهدأ لتثور من جديد في مرحلة أخرى من مراحل تاريخ الكنيسة الحافل بألوان شتى من هذا الجدل- خاصة في أوروبا- وربما يصل إلى درجة الصراع، إضافة إلى تجليات الاشتباك بين الكنيسة/ البابا، والسياسة/ الإمبراطور، التي ظلت حبيسة عشرات من المخطوطات والوثائق، إلى أن اتسعت رقعت الانفصال بين الكنيسة كمؤسسة دينية وبين العلم كمؤسسة مدنية، وقد اشتد هذا مع ظهور الثورة الفرنسية عام 1789م، وإعلاء مبادىء الحرية. ثم يتنقل بنا المؤلف خطوة بخطوة فيبين لنا أنه مع تطور طرائق التعبير الأدبية ظهرت كتابات تنحو نحوًا أدبيًا أو شعريًا أو روائيًا أو مقاليًا أو مسرحيًا، اتخذت من الكنيسة؛ تاريخها، أو أحداثها، أو رجالها، أو طوائفها، موضوعًا مركزًا تسجل وجهات نظر كتابها؛ التي قد تتفق أو تتعارض مع السائد، وقد تصل أحيانًا في تعارضتها إلى حد الصدام المباشر مع الكنيسة وسلطتها، فإمّا تحاكم الأعمال وأصحابها، وإمّا تجد هذه الأعمال الأدبية مناصرين لها من الأحرار والعقلانيين، وربما من الملحدين. وهكذا يصطحبنا معه المؤلف في تطور الأحداث موضوعيًا وزمانيًا إلى أن يصل لما شهده القرنان الأخيران من تطور علمي تكنولوجي هائل زاد من موجات التحيز للعلم والانتصارات للعقلانية والتحررية في مقابل انحصار التدين الأصولي، غير أن موجات الأصولية كانت تعود أحيانًا بعنف وضراوة، فتجلى من جديد الصراع بين الدين والعلم. ثم يبين لنا أنه على مستوى السرد قد شهدت العقود الخمسة الأخيرة تطورًا في الكتابة الحكائية بظهور النظريات السردية الجديدة التي تناغم بعضها مع مقولات عصر ما بعد الحداثة واستجابة بعض السرود الجديدة للفكر الليبرالي المتحمس للعلم. ووقوفها في مواجهة ما سماه الناقد الأوروبي (فرانسوا ليوتار) وغيره ب (السرديات الكبرى الحاكمة) وذلك في كتابه (شرط ما بعد الحداثة) الذي ظهر في عام 1979م، ثم يفصح لنا المؤلف بأن الرواية التي نحن بصددها في هذه الدراسة هي ضمن السرديات الجديدة التي ترد على أو تُسائل، أو تُحاكم السرديات الكبرى الحاكمة، ثم يستكمل في التمهيد ما طرحته الدراسات المقارنة من مدارس للأدب المقارن، وبعدها يعرج على جملة من القضايا النظرية المعنية بقضية فض الاشتباك بين هذه الروايات محل الدراسة ونوعها الأدبي التي تنتمي إليه.
هذا وبعد أن هيأ المؤلف أذهاننا ورتب عقولنا لاستقبال محاور الدراسة دون عثرات، يشرع في الفصل الأول المعنون ب: “بنية الشكل الروائي” الذي قسمه إلى “بنية اعترافية” و “بنية العتبات” ثم “لعبة المخطوط”، ليخلص في نهاية الفصل إلى أن الروايات الأوربية الثلاث تتلاقى مع “عزازيل” في واحدة من أهم الحيل الفنية التي تتصل بالبنية الهندسية للشكل الروائي خاصة في عتباته الأولى.
ووضع للفصل الثاني عنوان: “البنية الداخلية” وفيه أوضح لنا أن بنية فصول الروايات، أو وحدتها السردية هي خاضعة في الأساس إلى مؤلف الرواية الذي يختار البنية المناسبة للقالب الفني الملائم لمضمون الحكي الروائي، فهناك من يخطط لروايته ليكون بناؤها قائمًا على فصول يختار لها عناوين مقصودة تحيل إلى أحداث أو أزمنة أو أمكنة أو شخوص، أو يجعلها محايدة ذات أرقام إلى آخر تلكم السبل التي يختار منها المؤلف ما يتناسب ورؤيته من الناحية الجمالية والتقنية أنسب فنيًا وأجمل دلاليًا. ثم استعرض لنا ما تبناه كل واحد من الروائيين الذين تعرض لرواياتهم من بنية مناسبة لروايته.
أما الفصل الثالث فخصصه ل: “بنية الشخصية” ونظرً لتعدد شخوص الروايات محل الدراسة نوعًا وكمًا، فقد اختار ثلاثة أنواع من هذه الشخوص لتواترها في أهم ثلاث روايات إلى حد التطابق في الملامح الحسية والنفسية وفي الدور الذي تنهض به كل شخصية، وهذه الشخصيات هي: 1- شخصية الراهب المُعذب بالغواية. 2- شخصية المرأة الفاتنة/ الغاوية. 3- شخصية إبليس.
بينما جاء الفصل الرابع تحت عنوان: “البنية الزمكانية” في هذا الفصل قصد المؤلف دراسة الزمان والمكان معًا لارتباطهما ارتباطًا قد يخل إذا درس أحدهما بعيدًا عن الآخر، ومبرره في ذلك: أننا لا نتصور حدثًا لا مكان له أو زمان يؤطره أنهما فضاءان يحاول المؤلف أن يخلق حكايته بينهما أو فيهما. والروايات محل الدراسة متفقة جميعًا في أنها مبنية من حيث الزمن على الحكي المسترجع الذي يستعيد فيه الراهب الحكاية من ذاكرته، هذا على مستوى البنية الزمانية العامة الحاكمة، والتي يصطلح بعضهم على تسميتها “السرد اللاحق للحدث”، أما الفضاء المكاني فإن الروايات تزخر بامكنة وفضاءات جرت فيها الأحداث، وتوقف عندها السارد، لأن الارتباط بين الزمان والمكان ارتباط لا يمكن فصله؛ فكلاهما يشارك الآخر في خصائصه الطبوغرافية.
ويأتي الفصل الخامس والأخير ليكون عنوانه: “بنية الحدث الروائي” وفيه بين المؤلف أن الروايات امتدد التشابه والتناص فيها إلى الحدث والموضوع، إذ تتلاقى الروايات في نص الرسالة الموضوعية، التي تحتويها الأحداث، وهى أحداث لا شك حقيقية سجلتها كتب التاريخ عامة، وتاريخ الكنيسة على وجه الخصوص الذي حفل برصد ألوان من الصراعات الدينية والتاريخية أختار المؤلف نوعين منها وهما: 1- الصراع العقدي. 2- الصراع الفكري. ثم ختم ذلك بما ترتب عليهما من عنف.
وفي النهاية وضع المؤلف لهذه الدراسة الأكاديمية خاتمة رائعة وضع فيها ما انتهى إليه البحث من نتائج.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: